شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الاربعاء 17 ابريل 2024م00:20 بتوقيت القدس

خبير بيئي: المباني المقصوفة تعرضت لجرعات عالية جدًا من المعادن الثقيلة السامة

ركام المنازل المدمّرة.. سمٌ يهدّد طلّاب "العَيش" بغزة

13 يوليو 2021 - 17:16
صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

غزة - شبكة نوى :

وجد مئات العمال المتعطلين عن العمل داخل قطاع غزة في مخلفات المنازل المقصوفة والمدمرة، فرصةً لكسب الرزق، فتدفقوا للحصول على الطوب وكتل الخرسانة من أجل إعادة تدويرها، واستخدامها في مواد البناء، ومن بينهم الشاب محمود أبو جزر.

ينقل "أبو جزر" بواسطة عربة "كارو" يمتلكها كميات كبيرة من الركام؛ يبيعها لكسارات متخصصة تعمل على تحويلها إلى حجارةٍ صغيرة "حصمة" لصناعة الطوب، أو لاستخدامها في أعمال البنية التحتية للطرقات.

ومنذ توقف العدوان على غزة فجر 20 مايو/ أيار الماضي، ينطلق أبو جزر (27 عامًا) كل صباح، لتجزئة الكتل الخرسانية الكبيرة حتى يتمكن من حملها على عربته. ينطلق بها إلى مصانع الطوب وأماكن تواجد الكسارات، ويحصل لقاء حمولة العربة الواحدة على ما بين 7 و10 شواقل، ولا يزيد دخله اليومي على 30 شيقلًا في أحسن الأحوال.

وينشط إلى جانب "أبو جزر" شبان آخرون، ليس من أجل الحصول على الكتل الخرسانية؛ إنما لإخراج القضبان الحديدية منها، وإعادة فردها وتعديلها، ثم بيعها لإعادة استخدامها في أعمال البناء، بسبب نقص الحديد وارتفاع أسعاره في أسواق القطاع.

الشاب إبراهيم حمدان بدا مرهقًا، وجلس وسط الركام يلتقط أنفاسه، وفي يده مطرقة معدنية كبيرة، وقد أمسك بزجاجة ماء، وغسل وجهه المليء بالغبار عدة مرات، ثم أمسك بقطعة قماش ولفها على وجهه، على شكل كمامة كبيرة، وعاد إلى عمله مجددًا.

وأكد أنه يعاني منذ مدة من ضيقٍ في التنفس، وسعال دائم، خاصةً خلال ساعات الليل، إضافةً لإصابته بطفح جلدي يعتقد أنه ناجم عن تعرضه للغبار بشكل مستمر.

وسام عيسى: أعاني من ضيقٍ في التنفس، وطفح جلدي، وأحيانًا أُصاب بدوار يفقدني القدرة على التوازن

حالة حمدان انطبقت على خمسة من الشبان ممن يعملون في إحدى الكسارات، يقول وسام عيسى: "إن الكسارة هي مصدر دخل العائلة. أحاول طوال فترة عملي، تنفيذ بعض إجراءات السلامة، كارتداء كمامة مبللة بالماء لمنع نفاذ الغبار إلى رئتيّ، والوقوف في الجهة المعاكسة للهواء، لكن ورغم ذلك، أعاني من ضيقٍ في التنفس، وطفح جلدي، وأحيانًا أُصاب بدوار يفقدني القدرة على التوازن".

ويوضح الرجل أن زوجة شقيقه التي تقطن إلى جوار موقع الكسارة أصيبت بفشلٍ كلويٍ حاد، ولا يعرف إذا كان الغبار هو مصدره أم لا.

تهديد صحي وبيئي

ويقول الخبير في الشأن البيئي د.أحمد حلس، رئيس المعهد الوطني للبيئة والتنمية: "إن التعرض المباشر للغبار الناجم عن الكتل الخرسانية للمباني المدمرة يحمل خطورة مزدوجة، ففي الحالة الطبيعية "بدون قصف" يحمل هذا الغبار ملوثات خطيرة، مثل: أكاسيد الألمونيوم والحديد، والكبريت، إضافة للكربون، وهي مواد سامة تنتج عن تفاعل الأسمنت مع عناصر بيئية أخرى".

حلس: المواد الخطرة تتطاير مع الغبار، ويستنشقها الأشخاص الأكثر قربًا، وسرعان ما تدخل إلى الرئتين وتستقر في الحويصلات الهوائية، وتمنعها من أداء مهمتها

ويوضح أستاذ العلوم البيئية في جامعة الأزهر بغزة، أن هذه المواد الخطرة تتطاير مع الغبار، ويستنشقها الأشخاص الأكثر قربًا، وسرعان ما تدخل إلى الرئتين وتستقر في الحويصلات الهوائية، وتمنعها من أداء مهمتها في نقل الأوكسجين إلى الدم وخلايا الجسم، وبمرور الوقت يصبح هناك قصور شديد في عمل الرئتين.

ووفق حلس، فإن الأضرار المذكورة تنتج في حال كانت الكتل الخرسانية نظيفة، لكن في حالة غزة فإن المباني التي قصفت بالصواريخ، تعرضت لجرعات عالية جدًا من مواد ومعادن ثقيلة سامة، مثل: الكوبال، والرصاص، والزنك، والنحاس، إضافة لمواد مشعة لا يمكن الكشف عنها في القطاع، نظرًا لعدم توفر مختبرات متطورة.

ويؤكد أن هذه المواد تعلق بالكتل الخرسانية، وتصبح لصيقةً بها وتتطاير مع الغبار، وتصل إلى الجسم من خلال التنفس أو اللمس، وتتسبب بمشاكل صحية على المديين القريب والبعيد.

وحددت منظمة الصحة العالمية مجموعة من النفايات الخطرة التي تؤثر بشكل مباشر على صحة الأشخاص، ومن بينها ركام المنازل المدمرة والمقصوفة.

وذكرت المنظمة أن الأشخاص الأكثر عرضة لهذا النوع من النفايات، هم بالدرجة الأولى العاملين على رفعها ونقلها وتكسيرها، إضافة للأشخاص المتواجدين في محيط وجود الركام.

ووفق المنظمة، فإن هذا النوع من النفايات الخطرة يمكن أن يصل إلى الجسم من خلال التنفس أو الملامسة، وينتج عن ذلك أمراض تنفسية وجلدية، وتلوث يصل بعناصر أو مركبات سامّة، وعناصر ثقيلة مثل الزئبق، أو الديوكسينات -وهي من المواد التي تسبّب السرطان لدى البشر.

كسارات الموت

ودمر الاحتلال خلال العدوان الأخير خمسة أبراج بشكل كامل. وبينما ألحق القصف العنيف أضرارًا كبيرة بالعديد من الأبراج الأخرى، بلغ عدد البنايات السكنية والمؤسساتية التي دمرها جيش الاحتلال 156 بناية، تضم 1174 وحدة سكنية.

ويُحذر حلس بشدة من مخاطر كبيرة، تنتج عن عمل كسارات ركام المباني، "فالكسارات التي يتجاوز عددها 100 كسارة في قطاع غزة، صُنعت محليًا وبطريقة بدائية، وهي غير صديقة للبيئة مطلقًا، وتنتج خلال عملها كميات هائلة جدًا من الأتربة والغبار الخفيف، الذي ينتشر في محيط مساحات واسعة".

حلس:وجود الكسارات في مناطق زراعية بعيدة عن السكان لا يقلل من مخاطرها إطلاقًا، "فالغبار يتطاير ويتجمع على أوراق الأشجار

وأكّد حلس أن وجود الكسارات في مناطق زراعية بعيدة عن السكان لا يقلل من مخاطرها إطلاقًا، "فالغبار يتطاير ويتجمع على أوراق الأشجار، ويشكل طبقة تمنع عمليات البناء الضوئي، وتُلوِّث الأشجار، كما أن جزءًا كبيرًا من الغبار يسقط على التربة ويلوثها، ما يتسبب بوصول هذا التلوث إلى الخضروات، وقد يتسرب مع مياه المطر إلى الخزان الجوفي ويلوثه هو أيضًا".

ويلفت إلى أن العاملين في الكسارات، أو نقل وتكسير الخرسانة، يؤدون وظيفة "ناقل السم"، حين يعودون بملابسهم المغبرة، وشعورهم المغطاة بالمواد السامة إلى منازلهم، "فينقلون هذه السموم إلى أفراد عائلاتهم".

معد التحقيق زار أكثر من منطقة تنتشر فيها كسارات ومواقع إزالة ركام، فاكتشف أن عددًا كبيرًا من سكان المناطق التي تقع في محيط دائرة قطرها 150 متر من وجود الكسارة، يعانون من مشاكل في الجهاز التنفسي، أبرزها التهابات الجيوب الأنفية المزمنة، والسعال، وحساسية الصدر، وخلل في وظائف الكلى، وبعض المواطنين لديهم تقارير طبية تفيد بإصابتهم بأمراض تنفسية بسبب الغبار.

وعانت عائلتي المواطنين محمد جاد الله، وفوزي جبارة من مشاكل صحية كبيرة جراء استنشاق كميات كبيرة من غبار الركام على مدار سنوات، نظرًا لوقوع منزليهما ومنازل جيران آخرين على بعد عشرات الأمتار من إحدى الكسارات التي تقع شرق مدينة رفح، جنوب قطاع غزة.

جاد الله:ابني من ذوي الإعاقة، وقد عانى من ربو وأزمات صدرية حادة

ويقول جاد الله: "ابني من ذوي الإعاقة، وقد عانى من ربو وأزمات صدرية حادة"، بينما يعاني جبارة -وفق زوجته- من أمراضٍ مماثلة، ولا يتوقف عن أخذ العلاج، بعضه يحصل عليه مجانًا من عيادات الرعاية الأولية التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "انروا"، وأنواع أخرى يضطر لشرائها على نفقته الخاصة.

وفي تقرير صدر في 17 سبتمبر/ أيلول 2009، أكّدت لجنة (New weapons)، وهي لجنة متخصصة في دراسة آثار الأسلحة، احتواء تربة غزة على (35) معدنًا سامًا ومسرطنًا، ووجود تركيزات غير عادية للعناصر النادرة في تربة غزة، ومن أهمها: التنجستن، والكوبالت، ملفتةً إلى أن وجود هذه العناصر، تظهر آثارها السلبية في صورة تشوهات خلقية، وأمراض سرطانية تمتد لعقود.

وتعد أمراض الفشل الكلوي من الأمراض السمية، التي تنتج عن تسلل أنواع من المواد السامة للجسم، ووفق جمعية أصدقاء مرضى الكلى الخيرية بغزة، فإنه ومنذ العام 2015م، بدأت مشاكل مرضى الكلي بالتصاعد، وسُجّلت زيادة في معدلات الإصابة بالمرض بنسبة تتراوح ما بين 35-40% مقارنة بالفترة الماضية.

جهود وصعوبات

من ناحيته، يقول وكيل وزارة الأشغال بغزة ناجي سرحان: "إن التخلص من الركام بطريقة صحيحة، يُعدُّ أحد أبرز المشكلات التي تواجه وزارة الأشغال في كل عدوان، لكن الوزارة أصبح لديها خبرات في هذا المجال، وهي –اليوم- تعمل بشكلٍ سريع بالتعاون مع الفرق الفنية المصرية، إضافة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي على نقل الركام الخطر من قلب الأحياء السكنية".

ويقدر سرحان حجم الركام الذي خلفه العدوان الأخير بنحو 275 ألف طن، تم رفع نصفه حتى هذه اللحظة، مشيرًا إلى أن شبكات الطرق تعطَى أولوية استخدام الركام المعاد تدويره، حيث يتم وضعه تحت طبقات الإسفلت، وجزء منه يستخدم في صناعة الطوب.

وإذ يتحدث وكيل الوزارة عن تعاون مع هندسة المتفجرات بغزة، لتأمين عمليات إزالة الركام، يقول محمد العسكري مدير عام الوزارة: "يتم تجميع الركام المزال في أماكن مخصصة، بعيدًا عن التجمعات السكنية حفاظًا على السلامة العامة، حيث تخضع للفحوصات اللازمة ومن ثم يتم توجيهها إلى إعادة الاستخدام وفق الإشراف الهندسي والفني ومتطلبات الحالة، "وهذا ما تم الاتفاق عليه مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ومع المصريين".

العسكري: منطقة مخيم الشاطئ تواجه خطر الانجراف بسبب ظاهرة المد البحري، وقد يكون للركام دور مهم في إعادة تأهيله وحمايته

ويؤكد مدير عام وزارة الأشغال بغزة محمد العسكري، حرص الوزارة على تحقيق أقصى استفادة من الركام، بعد فرزه وفق مخطط هندسي وفني مدروس، ذلك كي لا يشكل خطرًا إنشائيًا على عملية إعادة الإعمار، ذاكرًا أن منطقة مخيم الشاطئ على وجه الخصوص، تواجه خطر الانجراف بسبب ظاهرة المد البحري، وقد يكون للركام دور مهم في إعادة تأهيله وحمايته.

عند هذه النقطة، على وجه التحديد، نعود إلى د.حلّس، الذي عارضه الرأي، وحذّر بشدة، من خطورة وضع الركام في البحر بغرض تعزيز الميناء، أو إقامة ألسنة بحرية، عادًا الخطوة غير صحيحة وتنقل التلوث للبحر وللأسماك، فالأمواج تقوم بعملية غسلٍ مستمر للكتل الخرسانية، وتنشر السموم العالقة فيها في البحر.

خطوة اضطرارية

ويؤكد رئيس اتحاد المقاولين في قطاع غزة، أسامة كحيل، بدوره، أن إعادة تدوير الركام يعد خطوة اضطرارية، لجأت إليها غزة منذ العدوان الأول نهاية 2008، مطلع 2009، "فمساحة القطاع صغيرة، ولا تتوفر فيه مساحات يمكنها احتواء الكميات الكبيرة من الركام"، نبه إلى منع الاحتلال توريد مواد البناء وحاجة قطاع غزة الملحة لكميات كبيرة منها، من أجل إعادة الإعمار، "جعل إعادة التدوير على أساس هندسي حلًا وحيدًا".

كحيل: يحظر استخدام مخلفات الإعمار في الأعمال الإنشائية الرئيسية، التي تتحمل ضغطًا عاليًا مثل "الخرسانة

ويشدد كحيل على أن اتحاد المقاولين، يحظر استخدام مخلفات الإعمار في الأعمال الإنشائية الرئيسية، التي تتحمل ضغطًا عاليًا مثل "الخرسانة"، ويقتصر التعامل معها (والحديث له) في شبكات الطرق تحت طبقة الإسفلت، أو في صناعة طوب البناء "البلوك"، وهي توفر مبالغ كبيرة في مراحل البناء والإعمار المصرح استخدامها فيها.

ويوصي الاتحاد دائمًا، وفق رئيسه، باتخاذ إجراءات الوقاية والسلامة خلال التعامل مع هذه المخلفات التي قد تحمل خطورة، سواءً بلبس الكمامة، أو فحص العناصر، واتباع طرق صحيحة في الرفع والإزالة.

وحول ظاهرة العمال أكد أن الوضع الاقتصادي الصعب، وغياب فرص العمل، جعل المئات يتجهون لجمع الركام وتكسيره لتحقيق دخول متفاوتة، "وهذه العملية، يجب أن تخضع لمتابعة جهات الاختصاص.

وعلى الرغم من تحذيرات الخبراء والمختصين من خطورة التعرض لركام المباني المدمرة، أو التعامل معه، إلا أن الوزارات والجهات الحكومية لم يسبق وأن أصدرت منعًا لظاهرة نقل وتكسير الركام.

وما زال مئات، بل آلاف العمال، يعملون في تلك المهنة بعد كل عدوان، وقد برر مسؤول في وزارة الصحة -طلب عدم الكشف عن اسمه- أسباب ذلك بطريقة التعامل مع القضايا البيئية.

ففي الحالات المشابهة يفترض أن تصدر توصية من وزارة الصحة، لجهات الاختصاص بخطورة العمل في مهنة أو منطقة معينة، وبناءً على هذه التوصية يتم اتخاذ القرار المناسب، "لكن أيًا من التوصيات لم تصدر بهذا الخصوص".

وعزا المصدر أسباب عدم صدور التوصية، لاعتماد الوزارة على دراسات أو أبحاث، أو نتائج لجان تحقيق، وهذه غالبًا ما تحدث بعد ورود شكاوى، "وبما أنه لا يوجد شكاوى، فلم يحدث أي شيء من هذا القبيل، حيث أن كل الرافضين لهذه الظاهرة لم يقدموا شكاوى أو دراسة، يمكن الاعتماد عليها لوقفها".

ملوثات خطيرة

ويعد الربو من أخطر الأمراض التي يتعرض لها العاملون في تكسير ونقل الركام، ومن يعمل إلى جانب الكسارات، فوفق الدكتور محمود الخزندار رئيس قسم الصدرية بمجمع الشفاء الطبي، فإن حوالي 12% من سكان قطاع غزة مصابون بمرض الربو، الذي تظهر أعراضه بشكل كبير على فئة الأطفال، وفئات المجتمع الفقيرة التي تقطن في المناطق المهمشة داخل القطاع، "وسط توقعات بزيادة النسبة بسبب القصف والغبار الناجم عن إزالة الركام".

بينما يؤكد الدكتور صبري الصرفندي المختص في الأمراض الصدرية والتنفسية، أن الأشخاص الذين يعانون من حالات "ربو"، تتدهور أحوالهم الصحية حال التعرض للغبار، خاصة الناجم عن ركام المباني، كما أن بعض الأشخاص ممن لديهم استعداد وراثي للإصابة بالربو، يكون لديهم مشكلة إذا ما تعرضوا للغبار بصورة مباشرة.

والمريض بالربو بحاجة دائمة لتناول أدوية تتمثل في موسعات للشعب الهوائية، واستخدام "الكورتيزون" كمضاد لالتهاب هذه الشعب، إلى جانب استعمال "بخاخات" طبية تساعد على تخفيف أعراض الربو، وهي تكاليف باهظة على الفئات الفقيرة والمهمشة الأكثر عرضة لهذا المرض، ما يضطرهم للجوء إلى عيادات الرعاية الأولية، خاصة التابعة لوكالة الغوث الدولية "الأونروا"، من أجل الحصول على الدواء مجانًا.

ووفق الخزندار، فإن المرض في حال اشتداده يسبب فشلًا كلويًا لدى المريض، كما يتسبب في نوباتٍ حادة، تعمل على نقص الأكسجين وضيق التنفس، مما يستدعي نقله إلى المستشفى بأقصى سرعة ممكنة.

ورغم عدم توقفه عن السعال، استمر أحمد عوض "28 عامًا" في طرق الركام بمطرقة معدنية كبيرة. كان ينقل الطوب الصغير والمتوسط إلى عربة كارو، بينما يحاول استخراج ما استطاع من قضبان معدنية مختلفة السماكات.

عوض الله: وجدتُ في الركام فرصة للرزق، وحتى الانتهاء من إزالته، الفترة قصيرة، ولهذا أحاول استغلالها بالعمل، رغم معرفتي المسبقة بخطرها

يقول: "وجدتُ في الركام فرصة للرزق، وحتى الانتهاء من إزالته، الفترة قصيرة، ولهذا أحاول استغلالها بالعمل، رغم معرفتي المسبقة بخطرها"، مبينًا أنه يحرص على ارتداء كمامة، وتجنب الهواء في مواجهة الغبار، إضافة لشرب كمية من الحليب المجفف بعد غليه، واستنشاق رحيق النعناع.

وتحتل الأمراض التنفسية المركز الرابع كمسبب لحالات الوفاة بين الذكور في قطاع غزة بنسبة 6% وفي المركز السادس الفشل الكلوي بنسبة 4,2%، وفق آخر تقرير إحصائي صدر عن وزارة الصحة بالقطاع، بينما تحتل الأمراض التنفسية المسبب الخامس لحالات الوفاة بين الإناث في قطاع غزة بنسبة 5%.

ولا يقتصر أثر المواد والعناصر الثقيلة التي تنجم عن الصواريخ والقذائف الإسرائيلية، على إصابة الجهاز التنفسي فحسب، فقد أظهرت دراسات ومعطيات أن الأشخاص الأكثر عرضة لهذه العناصر، معرضون للإصابة بالفشل الكلوي، وتشوهات في الأجنة والمواليد، وكذلك حالات إجهاض للنساء، فبعد وخلال كل عدوان، تحدث زيادة كبيرة في حالات الإجهاض إضافةً لتشوه الأجنة، بسبب العناصر الثقيلة التي تسببها مخلفات الصواريخ، ومعظمها تعلق في التربة أو ركام المباني المقصوفة، وفق دراسة نشرت في المجلة العلمية ( "International Journal of Environment Research and Public Health).

ووجدت الدراسة التي أجراها الباحثون: باول ماندوكا من جامعة "جِنوفا" في إيطاليا، وعوني نعيم من غزة، وسيمونا سينيوريلو من جامعة "نابولي الثانية"، رابطًا وثيقًا بين التعرض لمعادن الأسلحة الثقيلة التي استُخدمت في قطاع غزة، وارتفاع نسبة العيوب الخلقية والولادات المبكرة.

وأظهرت الدراسة أن (27%) من أهالي الأطفال الذين يعانون عيوبًا خلقية، تعرضوا لقنابل تحمل كميات من المعادن الثقيلة، وقد أثبتت نتائج تحليل عينات الشعر إلى ارتفاع معدل معادن الزئبق، والسيلينيوم، والقصدير، في عينات شعر الأطفال من ذوي العيوب الخلقية، مقارنة بالأطفال الأصحاء، وإلى ارتفاع معدل القصدير والباريوم عند الأطفال الخدج مقارنة مع الأطفال الأصحاء.

وتوافق هذه المعطيات الحالة التي عاشتها أسرة أسامة حمد، الذي أنجب بعد أشهر من عدوان 2014 طفلًا يعاني تشوهات إثر سقوط صواريخ وقذائف قرب منزله، تسبب انفجارها في امتلاء المنزل بالغبار الناجم عنها.

ووفق قسم الولادة في مجمع الشفاء الطبي، فقد حدث ارتفاع على نسبة تشوهات الأجنة بعد العام 2010 بنحو 50%، فأصبح حوالي 63 حالة تشوه لكل 1000 مولود، في حين أن النسبة العالمية 40 لكل ألف مولود، ثم حدثت زيادة أخرى بعد عدوان 2012، وزيادة أكبر بعد العام 2014، وزادت على 100 حالة لكل ألف حالة ولادة، وهي في ارتفاع مستمر.

خطر كامن

ولا يقتصر خطر العمل في تكسير ونقل الركام على الغبار والمواد السامة العالقة به، فقد يواجه هؤلاء العمال خطر المقذوفات غير المنفجرة، إذ يقول رئيس قسم التوعية والإرشاد في الهيئة العامة لهندسة المتفجرات بشرطة غزة محمد مقداد: "إن أي مكان يُقصف، يُعد منطقةً خطرة، ويجب التعامل معه بحذر".

ويشير إلى أن هندسة المتفجرات عملت على تأمين كل المباني التي تعرضت للقصف والتدمير من الخارج، "لكن لا أحد يعلم ماذا يوجد تحت ركامها، فقد يكون هناك مقذوفات أو أجزاء منها لم تنفجر، لذلك تم التعميم على الشركات العاملة بوجوب الحذر عند العمل، وإبلاغ جهات الاختصاص في حال صادفت أي جسم غريب".

وتحدث مقداد عن الخطورة الكبيرة التي تواجه العمال، ممن يعملون في نقل الركام أو تدويره، "فهؤلاء ومن خلال استخدام معدات الطرق الثقيلة يواجهون مخاطر جمة، لذلك بدأت الشرطة –والحديث لمقداد- بحملة توعية واسعة لهم قبل العدوان الأخير، ونفذت عشرات اللقاءات لتعريفهم بمخاطر نقل أو تحريك أو الطرق على أي جسم مشبوه.

وبيّن أن عدد المقذوفات التي لم تنفجر خلال العدوان الأخير كان كبيرًا قياسًا بالاعتداءات الإسرائيلية السابقة، فقد نفذت شرطة هندسة المتفجرات أكثر من 1800 مهمّة.

ووفق تقرير صادر عن سلطة جودة البيئة في العام 2015، حول آثار العدوان، فإن عمليات القصف وتدمير المنازل ينجم عنها ملوثات خطيرة، منها الضوضاء، التي تكون خلال العدوان وبعده، بسبب هدير الآليات التي تقوم على رفع الركام، إضافة إلى تلوث الهواء بالغبار وببقايا الصواريخ، والأخطر من ذلك تلوث التربة التي تعرضت للقصف.

كاريكاتـــــير