شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم السبت 20 ابريل 2024م03:22 بتوقيت القدس

ناجية من مجزرة "الوحدة" تروي تفاصيل فيلم "القيامة" الحقيقي

27 مايو 2021 - 15:47

شبكة نوى، فلسطينيات: غزة:

كان جدار شرفةِ بيت الحاج "أبو فايز الكولك" مزينًا بإصِّيصات الورود المختلفة التي تعتني بها ابنته الحنون بهاء، ينبعث من رائحتها الزكيّة وألوانها الجذابة كل معاني الحبُّ والأمان، فتصل إلى شيرين الكولك "أم أحمد" التي  لطالما تحدثت معها من شرفة بيتها المقابل والتي لا يفصل بين الشرفتين سوى مساحة المتر والنصف.

ذلك البيت بشُرفتِه وأزهاره الفاتنة اندثرت وباتت ركامًا فوق رؤوس أهلها بعد أن انطلقت صواريخ الاحتلال الصهيوني منتصف الليل لتبيد الحيَّ الآمن في شارع الوحدة بمدينة غزة.

حاصر الموتُ "شيرين" وعائلتَها الصغيرة، لقد بات وشيكًا لا مفرّ، لكن ملائكةً كانت تحميها من كل ناحية بفضل الله ثم "سُبْحة" قبض عليها صغيرُها أحمد حتى انتهاء المجزرة وفق ما روت لـ" نوى" وتلك حكايتُها ترويها بعيونٍ سارحةٍ ذابلة بالحزن والألم على فراق أقربائها وأحبتها:

"في تلك الليلة التي لا أدرِ كيف ظننتها ستكون هادئة، ذهبنا للنوم ونحن الذين لم نكن قد غفونا منذ بداية العدوان، وقبل أن يغمض لنا جفنٌ إذ بصوتٍ مَهُولٍ يضرب، ثم ثانٍ وثالث، إنها القيامةُ تقوم بدون مقدّمات ، أصوات صواريخ.. تكسير في كل مكان.. زلزالٌ عنيف يهزّ الأرض والأسرّة.. وهجٌ مُرعبٌ على الجدران يطغى آلاف المرات على وهج "اللّدّات" التي كانت تنير بيتنا تلك الليلة".

 مشاعر مفزِعة تجتاح شيرين وتسيطر على جسدها، ما الذي يجري؟ هل القصف في بيتنا؟ هل في حيّنا الأكثر أمانًا في قطاع غزّة؟ هل نحن نموت الآن بتلك الطريقة الشنيعة؟" تساؤلات ومشاعر لم تمنعها من ارتداء وشاحها في ثانيةٍ واحدة، وحضن طفليها "أحمد وكريم تحت ذراعيها والركض أسفل العمارة المكونة من طوابق ثلاثة بعد أن حمل زوجُها طفلَه محمد الذي لم يتجاوز الثالثة وأخبرها بفزعٍ أن العمارة المجاورة قُصِفت وانهالت فوق رؤوس أصحابِها.

وتصف:" كنا نركض على الدّرج نزولًا وهو يهتزّ من تحتنا وبلاطُه  يُقتِلع، "وكراميكا" الجدران تتطاير وتخرج من مكانها وترتطم هنا وهناك، والقصف لا يتوقّف والذُعر يأكل قلوبنا".

وتكمل:" زوجي فهد "أبو أحمد" يسبقني ببضع خطوات محتضنًا الصغير محمد.. يصل عتبة البيت .. يقصف صاروخٌ جديد .. تتوهّج معه الدنيا كلّها بوهجَ الموت الأحمر.. تغرق الأجواء والأنفاس بالدخان الأسود القاتم، ويختفي زوجي بفعل قوة الصاروخ الذي قذفه خارج العمارة.. حينها استسلمتُ للموت وتوقفت مكاني ولفظت الشهادتين".

وما زال أحمد يقبض على السُّبحَة بقوّة ويلتصق بوالدته هو وأخوه، فهو حين سأل والدته مع بداية العدوان عمّ بالإمكان فعله حين يكون مذعورًا بفعل القصف أخبرتْه أن يُسبح كثيرًا ويسرح في كلمات الذّكر وأن يحاول أن لا يلتفت للقصف مهما عَلَا صوته وتجبّر، فكان موقنًا أن تلك السبحة تحميه بكلمات الذكر والتسبيح التي كان يُردّدها طوال الوقت.

وتواصل شيرين روايتها:" تحسّستُ روحي، فوجدت أنني ما أزال حيّة برفقة صغيرَيّ أحمد وكريم، وعدتُ لشحذها بالأمل في النّجاة، وإذ هممتُ بالخروج سمعت صوت زوجي يصرخ "ادخلي جوا"، في حين أن كل قراراتنا كانت مجرّد اجتهاد في النجاة، فالصواريخ في تلك الليلة لم تترك مكانًا آمنًا، لكن أملًا بالحياة وسط القيامة القائمة سرى في جسدي بسماع صوت زوجي.. وما زلتُ أتشاهَد".

وتكمل :" لا أدري كيف قررنا بعدها الخروج حاملين أرواحَنا على أكُفّنا، لم نجد مخرجًا فكل الجهات تحاصرنا بجبال ركام المنازل، تسلقناها دون الالتفات لجروحنا والقصف ما يزال مستمرًا،  نظرتُ لأعلى فإذ بخزانات الماء فوق سطح عمارة بيتنا تسقط أمام نواظرنا لكنها لم تُصبنا فتغرق المنطقة بالمياه وكذلك أحد جُدُر العمارات تميل وتسقط، وتتكدّس بالحجارة والحمم والشظايا والدخان والسّواد والحجارة المتطايرة والصراخ المذعور، والشهداء يا الله!".

تخطت شيرين وعائلتها أعلى درجات الخطر بخروجها من المربع المنكوب، لا تدري أين المفرّ، وأين المأمن، حتى الإسعافات لم يُترَك لها منفذ تدخل منه لتصل للمصابين، حتى وصلتْ شيرين إلى مطعم بالميرا ومن خلفها عدد من الناجين، وهناك بدأت تشعر بأنفاسها تنقطع وعرقها يتصبب ولم تعد تشعر بجسدها، وسقطت مغشيًا عليها قبل أن يتم إسعافها.

لكن صوتًا مليئًا بالذعر والتوسل يتسلل لمسامعها صارخًا "ماما .. ما تموتيش.. ماما متموتيش" لملمت به  قواها الخائرة، وأخبرتهم "أنا منيحة يا ماما مش حموت"، ثم وقعت عيناها على قبضة طفلها الذي ما يزال يضغط على السّبحة.

وتختم شيرين حكايتها التي لن تُمحى يومًا من ذاكرتها وفق قولها "عدنا لاستكمال رحلتنا مشيًا على الأقدام، حتى وصلنا مستشفى الشفاء، افترش صغاري الأرض، وأنا ما أزال لا أستوعب ما جرى، كأنني أشاهد فيلمًا خياليًا يستحيل حدوثه على أرض الواقع، كأنني أرى القيامة حقيقة، فيما راحت تُهدئ من روعي الحاجة أم عوني الكولك تلك التي كان مصابها أعظم وأعظم فأبناؤها الثلاثة وعائلاتهم يرقدون تحت أنقاض العمارة المقصوفة، فيا الله لطفًا بأحبتنا وصبرًا لقلوبهم المفجوعة".

كاريكاتـــــير