شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الثلاثاء 16 ابريل 2024م12:08 بتوقيت القدس

المُحرر إبراهيم البيطار..

في "الحجر" جسدُه.. وقلبُه في قبر أُمه!

15 اعسطس 2020 - 21:14
المحرر البيطار في الحجر الصحي
المحرر البيطار في الحجر الصحي

غزة:

يَعُدُّ الأسير المحرر إبراهيم البيطار الدقائق، لعل فترة الحجر الصحي التي يقضيها في فندق "بلو بيتش" على شاطئ بحر غزة تنتهي في وقتٍ أقرب.

هو يعي تمامًا بأنه لن يترك الفندق قبل إتمام 21 يومًا، إلا أنه يُمنّي نفسه كلما مضى الوقت بأن يحظى بدفء حضن العائلة، ذلك الذي حرمه منه الاحتلال سبعة عشرَ عامًا قضاها يتنقّل في سجونه.

إنه مستعجلٌ جدًا، فقبرُ أمه ينتظر! يحلم إبراهيم باللحظة التي يقف فيها مقابله فيقرأ على مسامع روحها الفاتحة، ويدعو لها بالكثير هناك، ثم يدعو على "إسرائيل" التي حرمته وداعها.

أمه التي توفيت قبل تسعة أشهر فقط، كانت طوال فترة اعتقاله تحيا على أمل أن تُكحل عينيها برؤيته، أن تطبطب على روحه فتزيل عنه هم سبعة عشر عامًا في عتمة الزنزانة، لكن الموت كان إليها أقرب. اليوم يعيش فترة انتظارٍ مرة، أصعب بمراحل من كل سنوات اعتقاله، اليوم دفقات الشغف لنور الشمس، للحرية، لقبر أمه، تكبر وتكبُر، ووحده يقف على عتبة الأمل يُحصي الوقت وينتظر.

يؤمن إبراهيم، الذي يبلغ من العمر أربعين عامًا إلا واحد، أنه لن يجد أشقاءه بملامحهم التي تركهم عليها، هو لن يحتضن أطفالًا كانوا يشاركونه الحياة في بيت العائلة يوم كان في مطلع العشرين، يعرف جيدًا أنهم كبروا، وأصبح لكل منهم عائلة عمرُها بعمر وجعه.

في اتصالٍ هاتفي مع نوى، روى تفاصيل الشهور الأخيرة لفترة اعتقاله، فقال: "منذ بقي لي عام واحد بدأت العدّ التنازلي، كل يوم وكل ساعة تختلف عن سواها وتصبح صعبة وثقيلة، كلما اقترب موعد الإفراج أكثر أُصاب أكثر بقلق وتوتر واضطراب في النوم أكثر، حتى بالكاد صرت أنام ثلاث ساعات".

لا يصدّق أنه أخيرًا سيرى النور، يشاهد في مخيلته مساحات واسعة بدلًا من جدران السجن الأربعة، الوقت ضيق، وزيارات زملائه الأسرى مهنئين بقرب تحرره تتوالى، ومع ذلك في القلب تخوّف.

في يوم الإفراج؛ أخذته ما تسمى قوات الناحشون -جنود الاحتلال المسؤولين عن باص الترحيلات من السجن- لنقله من سجن نفحة الصحراوي إلى حاجز بيت حانون شمال قطاع غزة.

كل دقيقة مرت طوال الطريق الذي لم يأخذ من الوقت ساعتين، كانت تمر ثقيلةً على قلبه، كان قلقًا لا يصدّق بأنه سيرى النور مجددًا.

حين وصل إلى حاجز بيت حانون (إيريز)، حاول ضباط الاحتلال الضغط عليه نفسيًا بالتعامل معه بنفس الطريقة التي عاملوه بها حين اعتقلوه قبل 17 عامًا، حتى ظن فعلًا أنهم سيعيدونه إلى السجن مرةً أخرى.

لدى تحرره قبل أسبوع، تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو للحظة وصوله إلى حاجز بيت حانون، علامات الصدمة كانت بالفعل تبدو واضحة على ملامحه، يقول هو نفسه عن هذا الموقف :"لم أطمئن إلا بسماع صوت الشاب الفلسطيني الذي هنأني بالسلامة".

حين نقلته السيارة إلى فندق "بلو بيتش"، رأى عن بُعد عشرات الشبان الذين وقفوا على بوابات الفندق مهللين بعودته، عرف من بينهم إخوته الذين لم يرهم كل هذه السنوات، يقول: "تغيّرت ملامحهم تمامًا، أما بقية الشبان فلم أعرفهم، فيما بعد أخبروني أنهم أبناء إخوتي وأخواتي الذين ولدوا خلال هذه السنوات".

تشكّل فترة الحجر الصحي ضغطًا نفسيًا إضافيًا على البيطار الذي يسابق الزمن لرؤية عائلته، لكنه يحاول التماسك والقفز عن لوعة قلبه، على اعتبار أن "الإجراءات الصحية في المرحلة الحالية، أهم من أي شيء آخر"، يعلق: "هي أيام وتنتهي وألتقي كل من حرمني الاحتلال منهم".

لم يرَ الحرية كاملة بعد، لكنه كما يحكي لـ "نوى" بدأ يعيش أزمات غزة التي سمع عنها وهو في السجن، انقطاع الكهرباء وملوحة المياه على سبيل المثال لا الحصر، ويضيف: "في الطريق إلى الفندق، رأيت الشوارع مزدحمة ومكتظة، بدت مختلفة تمامًا كأنها بلاد أخرى، قبل اعتقالي كانت كل هذه المناطق مساحات فارغة، حتى معبر بيت حانون، هو الآن عبارة عن مباني ضخمة وواسعة، بينما كان قديمًا مركز توقيف".

يتواصل البيطار مع عائلته حاليًا عن طريق الهاتف الذكي، الذي وجده صعبًا بعض الشيء، فهو حينما اعتقل كان يمتلك هاتفًا خليويًا من نوع "نوكيا- بشار" وكان الأحدث حينها، أما ما تلاه من هواتف وأنواع لم يعاصرها إلا اليوم، وقد بدأ يعتاد تطبيقاته نوعًا ما، وبات الأمر أسهل.

يعود الشاب بذاكرته إلى يوم اعتقاله، وكيف تُنسى مرحلة ذاق فيها عذابات إصابة واعتقال وإهمال طبي، والأقسى من هذا وذاك وفاة أمّه التي تركت الدنيا قبل أن يحظيا بحضن انتظراه طويلًا.

يقول: "تعرضت لإصابة خطيرة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي عام 2003م، وخرجت إلى مصر بتحويلة طبية لعلاج العين، حينها كانت سلطات الاحتلال متواجدة على معبر رفح، وتم توقيفي في الذهاب مدة 6 ساعات وفي النهاية تركوني".

غادر الشاب إلى معهد ناصر في مصر حيث تبيّن أن الإصابة في عينه اليمنى لا أمل في علاجها، وتم إجراء عملية جراحية له، ولدى عودته اعتقلته قوات الاحتلال على معبر رفح".

كان جريحًا يتلقى العلاج عندما عصبوا عينيه بقسوة، ونقلوه الساعة الواحدة ليلًا إلى معبر كرم أبو سالم القريب من معبر رفح حتى السادسة صباحًا، ومن ثم إلى سجون الاحتلال حيث تعرّض لتحقيق قاسٍ وإهمال طبي، وحرمان من الدواء، ما أدى إلى تضرر إصابته أكثر، وتعرض عينه المصابة للالتهاب، وتراجع وضعه الصحي بالعموم.

يكمل: "خلال التحقيق اتهموني بإطلاق النار على جنود الاحتلال، والانتماء لكتائب شهداء الأقصى، كنت أنفي تمامًا، لكن لاحقًا وقعتُ في مصيدة العصافير التي يقع فيها عدد غير قليل من الأسرى –والعصافير مصطلح يطلق على متعاونين مع الاحتلال يتم زرعهم بين الأسرى لسحب الاعترافات منهم".

حكمت محكمة الاحتلال الإسرائيلي على البيطار بالسجن المؤبد، ومن ثم تم تخفيض الحكم إلى 17 عامًا، قضاها متنقلًا بين السجون، بدءًا من سجن الرملة، فعزل أيلون، ثم سجن هلجدار وإيشل، وريمون، وأخيرًا معتقل نفحة الذي قضى فيه 12 عامًا، ومنه تحرر.

عدة سجون تنقل بينها البيطار، على اختلاف ظروفها بقيت العلامة فيها فترة العزل الانفرادي في عزل أيالون التي استمرت مدة شهرين عام 2004، أي بعد سبعة أشهر من اعتقاله، قضاها في غرفةٍ صغيرةٍ جدًا، منخفضة جدًا، بشبابيك صغيرة من الشبك يكاد لا يدخلها النور، وتتساقط فيها المياه.

التواصل مع العائلة كان صعبًا جدًا داخل السجون، يروي البيطار أن بعض الأسرى تمكنوا بصعوبةٍ من تهريب جوالات، والحديث فيها غالبًا يكون لمدة قصيرة جدًا باتصالٍ سريعٍ ومتقطع.

يردف: "أول اتصال أجريته مع العائلة مع بداية فترة الاعتقال، كان بإذن من إدارة السجن نفسها، مدته ثلاث دقائق، في ذلك الوقت لم يكن في بيتنا هاتف، واتصلت على هاتف الجيران، وبمجرد وصول أمي كانت الدقائق قد انتهت، ولم أسمع صوتها".

كان والداه يزورانه منذ اعتقاله حتى عام 2008م، توقفت الزيارة ثم عادت عام 2013م، حيث تعرضت والدته لظروف صحية صعبة، لم تتمكن بعدها من زيارته، زيارتها الوحيدة هذه تمكن خلالها من التقاط صورةٍ تجمعه بها وكانت الصورة الأولى والأخيرة.

عن ظروف السجن يقول: "صعبة وقاسية، كل 80 أسيرًا في قسم، يعيشون حياة مشتركة، كنا نحاول أن نهون على أنفسنا بالتزاور بين الغرف، وعقد الندوات الاجتماعية والثقافية المختلفة"، مستذكرًا البلاطة الحرارية المخصصة للطبخ في الغرف، "هي مؤذية للغاية بسبب حرارتها الشديدة، ناهيك عن أن الطبخ داخل الغرفة يجعل رائحتها على مدار اليوم غير جيدة".

"الطبخ في السجن لا يشبه الطبيخ العادي ولا الكعك ولا المعمول (والحديث للبيطار) نحاول استثمار أي شيء يتوفر من أجل صنع ما نريد، مثلًا الدقيق ممنوع، فنلجأ إلى تفتيت الخبز من أجل صنع الكنافة، ونضع عليها نوعًا من أنواع الجنبة الصفراء المتوفرة لأنه لا يوجد جبن خاص بالحلوى"، مضيفًا: "يمنع الاحتلال دخول السكاكين، فيعمد الأسرى إلى قطع علب الفول والتعامل معها كأنها سكين، وهي محظورة في السجن ولكن يخفيها الأسرى خشية مصادرتها من قبل حراس السجن".

الإضراب عن الطعام واحدة من أقسى التجارب على الأسرى، خاضه البيطار عام 2015 مدة أسبوع، يقول: "نخوض الإضراب المميت عن الطعام من أجل مطالب بسيطة، قد تبدو للبعض خارج السجن غير مهمة ولكنها مؤثرة في حياة الأسرى، أنا خضته احتجاجًا على نقلي إلى قسم جديد على سبيل المثال".

يتابع الأسرى الأحداث الجارية خارج السجن، ويعرفون كل ما يجري، كانت أقسى الأوقات على قلب البيطار هي تلك التي حدث فيها الانقسام الفلسطيني عام 2007م، وكذلك الحروب الثلاثة التي مرت على قطاع غزة.

يقول البيطار: "عندما نسمع عن قصفٍ في مكان ما، نحاول الاطمئنان على عائلاتنا بشتى الطرق، الأمر ليس بهذه السهولة، وقد تتأخر علينا الأخبار، الكثير منا ودّع أفرادًا من عائلته أو أصدقائه شهداء، ولطالما فتحنا بيوت عزاء داخل السجون".

لكن الموقف الأصعب على البيطار كان وفاة أمه قبل تسعة أشهر، يعلق: "منذ رأيتها آخر مرة عام 2013م ووضعها الصحي يزداد سوءًا، آخر اتصال هاتفي بيننا قالت لي فيه: بقي 9 شهور وأراك في حضني، وبعد يومان فقط توفيت".

كان يحسب الأيام التي تمر من عمره انتظارًا ليوم اللقاء، لكن خبر وفاتها قلبت حياته رأسًا على عقب، فكيف يعود إلى بيتهم ولا يراها؟ من سيلقاه على مدخل البيت غيرها؟ كيف سيقضي مناسباته القادمة التي تمنى طوال فترة اعتقاله أن تكون هي التي تشاركه إياها؟ يسأل نفسه كثيرًا من الأسئلة، لكن ما يعرف جيدًا أنه سيحدث لدى انتهاء الحجر الصحي هو أنه سيترك كل شيء ويذهب إلى حيث قبرها، يقرأ لها الفاتحة ويدعو، ثم سيزور بيتهم الذي تغير تمامًا "لم يعد هو ذلك البيت الصغير المتواضع الذي عشتُ فيه، فقد تم هدمه وبناء منزل جديد" يقول.

الآن هو ينتظر بناء حياة جديدة، وتكوين أسرة حرمه الاحتلال منها، عندما اعتقله في مطلع شبابه، إنه يمنّي نفسه بحياةٍ قادمة تعوضه كل فقد في العمر والأحلام والأحبة. "لعل ذلك يحدث قريبًا" يتمتم.

البيطار لدى تحرره على حاجز بيت حانون شمال قطاع غزة

البيطار في الحجر الصحي

 

الصورة الوحيدة للبيطار مع والدته عام 2013 

صوره داخل المعتقل 

كاريكاتـــــير