شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم السبت 20 ابريل 2024م10:31 بتوقيت القدس

دموعٌ لا تتوقف في بيت شهيد "إيجة"

06 ديسمبر 2021 - 14:21

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

البيت البسيط الذي يضجُّ بضحكات الأحبة، صار اليوم شاحبًا كئيبًا. أنس لم يعد هنا فتتعالى ضحكات الأحبّة، ولا يده عادت موجودةً لتربّت على قلوب اليائسين. كل ما تبقى لأمه رائحته في قطعة ثيابٍ كان يحبّها، وصورة.

أنس أبو رجيلة، شهيد البحر الذي غادر يشق طريقه نحو ما كان يسميه "المستقبل"، حيث لا حصار ولا قصف ولا صواريخ ترتج تحتها الأرض, استشهد غريقًا في بحر "إيجة" بين تركيا واليونان، حينما قرر الهجرة.. حلمٌ راوده عامين كاملين، وتخلى عنه خلالها مراتٍ ومرات إكرامًا لوجه أمه، حتى اتخذ قراره أخيرًا.. وهاجر نحو آخر أحلامه.

في زاويةٍ صغيرة، تجلس أمه تحت غيمةٍ من الحزن، وتبدأ رواية الحكاية: "أنس شاب طيب، كان حلمه أن يجد عملًا ليساعد والده المريض، ويسهم في تعليم أخواته"، حتى أنه جرّب –تبعًا لها- الكثير من الأعمال كأن يصنع أرز الماندي (الدجاج المحمر في برميل داخل الأرض)، وكان بالكاد يحصل على ما يسد به رمق أهله.

تقول: "كان يعلم أن الهجرة هي طريق موت، لكن لم يجد أمامه حلًا سواها بعد أن انقطع بصيص الأمل في قلبه لإيجاد أي حل آخر".

وتكمل: "ودعناه، يومها حضنته وغمرته بكل ما لدي من قوة، ولم أكن أعلم أن هذا اللقاء سيكون الأخير وهو حيّ".

قضى أنس شهرًا ونصف الشهر في إحدى الفنادق، وكانت عائلته تحاول تدبير احتياجاته ماليًا، وفي مكالمته الأخيرة، تحدثت معه أمه وهي تبكي تارةً، وتكفكف دمعها تارةً أخرى. قال لها: "ادعيلي يما، ادعيلي أعيش وأعيشكم أحلى حياة، بدل الذل والقهر الي عشناه".

تميل سجى (١٩ عامًا) على حضن أمها وتكمل عنها الحديث: "في تلك المكالمة قال لي: "شدّي حالك يختي، ما تقلقي، هوصل  اليونان وأشتغل قبل ما يخلص الفصل الجامعي عندك، وهسدّدلك الرسوم، مرحبابك بس شدي حيلك وحققي حلمنا فيكِ وكوني متعلمة".

وتردد سجى وهي تبكي: "صوته يرن في أذني حتى الآن، مكان نومه، وكلامه الذي لا أنساه.. الحياة بدون أنس مش حياة".

ما زالت أمه تذكر ذلك اليوم غريب الملامح. كان ما بثه الإعلام صاعقة ضربت قلبها عندما بدأ تسجيلٌ هاتفي لأحد المهاجرين الغزيين على متن القارب ذاته الذي استقله أنس ينتشر.

"يما الحقيني كلنا ميتين بالبحر، ساعتين بنغرق، ساعتين ضلينا بالمية مرميين يما، أبو ادهم مات، والشباب إلي معانا ماتو"، سجّلها رسالةً لأمه "يحيى بربخ"، ونشرتها عائلته على مواقع التواصل الاجتماعي.

في بيت أنس، لم تكمل أمه سماع التسجيل حتى أغمي عليها، ذلك الخوف المنبعث من صوت صاحب التسجيل عبر سماعة الهاتف زاد من توتر والده المريض، وقلب البيت رأسًا على عقب.

منذ ذلك الحين، بدأت المناشدات لمعرفة مصيره، حتى وصل لعائلته خبر وفاته، وطلبت والدته نقل جثمانه إلى غزة، ليوارى الثرى في مسقط رأسه جنوبًا.

لحظات الوداع كانت صعبة. حينما تودع الأم فلذة كبدها واضعةً يدها على قلبه، فإن الدنيا بما عليها لا يمكن أن تحمل ما تشعر به من أسى.

تروي والدة أنس هذه اللحظات: "حضنته، ما قدرت أبعد عنه، بدي يضل بحضني أنا لسة ما شبعت منه، حكيتله ما بدي أعيش بدونك يما، ما حققت حلمك بس عند ربنا هتحكي عن الظلم الي بنعيشه، وربنا هيكرمك بحياة أحلى من كل أحلامك".

تكمل كلماتها وكل واحدةٍ تخرج من فمها كالشوكة تجرح القلب: "أنا قلبي محروق ع نوارة قلبي، مش قادرة أتخيل أنس، ما راح أفرح فيه وأشوفه قدام عيوني عريس زي الشباب، والله يما رحت بدري وكسرتني..".

بعد أن تناول والد أنس الرجل الخمسيني علاجه، أسند نفسه إلى الحائط محاولًا إخفاء حزنه، وقال: "أنس هاجر حتى يبحث عن حياة كريمة وهاد حال الشباب في غزة، خلال جنازة أنس حضر شباب يعرفونه ولا يعرفونه، وكلهم رفعوا شعارات تطالب المسؤولين بإيجاد حل لقضايا الشباب"، محملًا المسؤولين الفلسطينيين، في الضفة الغربية وقطاع غزة، المسؤولية الكاملة وراء هجرة شباب في عمر الزهور، "أدعو الشباب إلى عدم ترك وطنهم والمغامرة في طريق غير معروف، فنتيجتها وجع لا يشعر به إلا من ذاقه" يختم.

كاريكاتـــــير