شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الجمعة 19 ابريل 2024م02:52 بتوقيت القدس

مسعفون يحييون ذكرى "يوم الجريح"..

ذكريات "الإصابة" المُرّة وبوحٌ عن "حروب" الرزق والكرامة

14 مارس 2021 - 14:49

شبكة نوى، فلسطينيات: يتحسس كفَّ يده اليُسرى، يمرر أصابعه فوق العروق البارزة ببرود، هو يعي جيدًا أنه لن يشعر بأي شيء، حتى لو طرقها بمطرقة، "فعمر الفقد في هذا المكان تجاوز 7 سنوات" يقول المسعف الجريح أحمد طاهر.

في هذا اليوم، تزوره الذكرى متسللةً بمُرّها إلى شرايين القلب، يصيبه وجعٌ لا يمكن لكلماتٍ أن تصفه، تمامًا كما كل جريحٍ فلسطيني وقفَ يومًا –ربما صدفة- في مرمى حقد "إسرائيل".. أحمد اليوم يحكي الحكاية، "لا لشيءٍ" يُخبرنا، بل كي يُوصل رسالة الجرحى الفلسطينيين ككل: نحنُ لسنا أرقامًا في أخبار وسائل الإعلام، كلٌ منا يعيش حربًا مع ذاته لا يدري عنها أحد، يكافح من أجل رزقه، كرامته، عمله، ويكابر كي يبقى بذات "الصلابة" أمام من يحب.. هنا أحمد يتحدث:

"كأنما حدث ذلك أمس" يهمسُ بأسى، ثم يبدأ بسرد الحكاية: "خلال عدوان 2014، كنا في مقر الإسعاف داخل مستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح، وسط قطاع غزة، عندما سمعنا صوت قصفٍ في المحيط، خرجنا لاستطلاع الأمر، فإذا بمواطنين يهرعون صوب المشفى هربًا من الموت".

انتهى القصف، تأكّد أحمد ومن معه من مسعفين من عدم وجود إصابات، ثم ما لبثوا أن عادوا إلى المقر. يتابع: "بعد مرور أقل من نصف ساعة، عادت الطائرات تقصف مرةً أخرى، لكن هذه المرة، كان القصف داخل أسوار المستشفى".

في تلك اللحظة  "شعرتُ بأن يدي انسلخت عن جسدي، نظرتُ نحوها، اطمأننت لكونها موجودة، لكنها كانت تسكب دمًا".

وكأن الأحداث مرّت أمام ناظريه للتو، أضاف بعاميةٍ ترتجف، وقد وضع رأسه بين كفيه: "طلعت أخلي المصابين داخل المستشفى، لكن قبل ما أفتح باب السيارة، أصاب القصف المركبة".

في تلك اللحظة –على حد وصفه- "شعرتُ بأن يدي انسلخت عن جسدي، نظرتُ نحوها، اطمأننت لكونها موجودة، لكنها كانت تسكب دمًا".

كان الجميع في حالة ذهول من استهداف المستشفى، عددٌ من المسعفين –غير أحمد- أصيبوا أيضًا! يقول الشاب: "أخليتُ نفسي بنفسي، بصعوبةٍ وصلت إلى قسم الاستقبال، حالةٌ من الهرج والمرج عمّت المكان بسبب القصف المتعمد للمستشفى، وكان من الصعوبة تقديم الخدمة الطبية للجميع".

لحظتها فقط، أيقن أحمد أن –حتى المستشفى- لم تعد آمنة، على الفور، بدأ الكل بإخلاء المكان، ونُقل المرضى هناك إلى مستشفى ناصر.

هناك.. بدأت رحلة العذاب مع الإصابة وتبعاتها، الأطباء لم يتمكنوا من إزالة الشظايا التي علقت بين عروق يده، تعاملوا مع الأمر على أنه "بسيط"، لكنه حقيقةً كان قد فقد الشعور بها تمامًا.

محاولاتٌ حثيثة بذلها الشاب طاهر، من أجل  تحويله للكشف لدى وفد طبي سوداني كان  يتابع الجرحى آنذاك، "لدرجة أنني اضطررتُ مرةً لغرس قلمٍ تواجد على مكتب رئيس القسم الذي كان مقتنعًا بأن يدي ليست بحاجة لعلاج، بكل قوة، بباطن كف يدي، دون أن أحرك ساكنًا، حتى اقتنع".

أكثر ما يؤلم طاهر، في هذه التجربة "المُرة"، أنه لم يتمكن من احتضان طفله الذي ولد في ذات العام، أو حتى حمله

الوفد السوداني قرر إجراء عمليةٍ فورية لإنقاذ الشريان من الانفجار، تلك ذلك عملياتٌ عدة، أجريت في مصر، كلها لم تستطع إعادة وضع اليد إلى ما كانت عليه، "أصابني عجزٌ كامل في العصب الحسّي" يتمتم بقهر.

أكثر ما يؤلم طاهر، في هذه التجربة "المُرة"، أنه لم يتمكن من احتضان طفله الذي ولد في ذات العام، أو حتى حمله، "وهذا وحده يجعلني أتوق لعودة يدي إلى حالها الأول، في أي مكان، وبأي ثمن".

في يوم الجريح الفلسطيني، بات سائق الإسعاف يؤمن بأن الجرحى لا يتشابهون: الأمر مرتبطٌ بالحزب والفصيل، وحتى سنة الإصابة ومكانها.

في مقر الإسعاف بمدينة "رفح" جنوب قطاع غزة، يتابع مدير المركز أنور أبو هولي العمل من خلف مكتبه، بعد أن تعرض لإصابةٍ أفقدته ساقه أثناء محاولة إخلاء مصابين في مخيم المغازي وسط قطاع غزة.

يستذكر (أبو العبد) كما يحب أن يُكنى، ذلك اليوم بكامل تفاصيله:" كان يومها تصعيدٌ إسرائيلي، استُهدفنا للمرة الأولى بصواريخ طائرات الاستطلاع (زنانة)، ثم أُبلغنا بقصفٍ لمجموعةٍ من المواطنين، وخرجنا لإسعافهم، وما كدنا نتحرك نحوهم لإخلائهم من المكان، حتى باغَتَنَا صاروخ زنانةٍ آخر".

حينها، شاهد قدمه وقد انسلخت عن جسده، كان الجلد الخارجي وحده ما يربطها به. "في ذلك الحين، لم أفكر في نفسي أبدًا، طلبتُ من زملائي إسعاف المصابين الآخرين، ثم فقدتُ الوعي لأستيقظ في المستشفى بعدها على هذه الحال، دونما قدم".

ذكرياتٌ مؤلمة  تحتفظ بها ذاكرة الرجل منذ سنوات، أمضاها في العلاج داخل وخارج فلسطين، ليعود بعدها إلى العمل، لكن بالتأكيد ليس كما تركه، يعقب: "أصبحتُ أُدير العمل من خلف المكتب، بعد أن كنت سبّاقًا إلى الميدان لإسعاف المصابين والجرحى (..) إنها ضريبة العمل الإنساني" يختم، وقد اكتفى من تجرع مرارة تلك التفاصيل كلما هبّ نسيم هذا اليوم.. يوم الجريح الفلسطيني، الذي يوافق الثالث عشر من نيسان/ أبريل، من كل عام.

كاريكاتـــــير