شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الخميس 28 مارس 2024م18:03 بتوقيت القدس

الحاج شُرّاب: نَفنى وتخلُدُ الفكرة

في حارة الشمعة.. "فرنٌ بلديٌ" يحارب إعصار الحداثة

17 ديسمبر 2020 - 12:13

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

إذا مررتَ يومًا "بحارة الشمعة"، حيث شارع "بيارة حلمي الطرزي" في غزة القديمة، فإنك سرعانَ ما تنجذبُ تلقائيًا تجاه رائحة القهوة في طور تحميصها الأخير؛ تمشي وراءها دون أن تشعر، فيقودك الطريق نهايةً إلى "فرنٍ بلدي" وحيد، يجلس أمام بابه الحاج صلاح شراب بأعوامه السبعين، ليحييكَ وأنتَ القادمُ إليه، دون أن يعرف من تكون؟ أو ما الذي تريده؟

داخل الفرن، يشبه "آلة زمن"، يمكنها أن تعود بك إلى حقبة الحكم العثماني بحجارته الطينية وعبق ماضيه. هناك سرعان ما يسقط نظرك على عمالٍ في الداخل تتصبب جباههم عرقًا أمام الفرن الملتهب، حتى في منتصف الشتاء! أكوام الحطب تملأ المكان، وأواني الفستق المحمص مرصوصةٌ بروية، فيما تصطف صواني الفطائر تباعًا، تنتظر دورها في السواء لتخرج إلى فم الذوّاقة ساخنةً طرية.

في هذا الفرن البلدي (الأصيل)، يركض بك المشهد إلى الخلف ما يقارب (150) سنة، قافزًا عن احتلالين، وانتفاضتين، وحروب كثيرة، يصرخُ تاريخًا بين شوارع حي الزيتون، وسط إعصارِ الحداثة المخيف، وموكب التطور الذي لا يتوقف.

مقايضةُ الحبّ

الحاج صلاح الذي ولد بعد نكبة فلسطين بثلاث سنوات فقط، لطالما كان ينتظر انتهاء دوامه المدرسي، ليركض باتجاه الفرن حيث الحكايات والمغامرات التي يحدث بها الزبائن والده.

يقول: "كنتُ آنسُ بحكايات زبائن الفرن وقصص أحوالهم، وما زلت أذكر فرحتي بقطعة البطاطا المحمرة، أو الفطائر التي يعطيني إياها أبي فور نضجها، فآكلها على عجل، لأشعر بطعمها يمتزج برائحة الحجر الرملي (..) نكهة الطعام المطبوخ على الحطب لا تُضاهى، ولا يُعلى عليها".

في ذلك الزمان، كان نظام المقايضة متأصلًا –حسب الحاج شراب- وغارسًا قدميه بقوة، فثمن الشواء على الفرن ثلاث بيضات، أو رغيفي خبز، أو "كم زيتونة"، وإن كان الثمن باهظًا فتلك "حمامةٌ" كاملة لا نقص فيها، أما من كان فقيرًا فكان والده "يسامحه"، يعلق بقوله: "هذا الفرن لم يسبق أن ردَّ أحدًا".

ولا يفتأُ الحاج صلاح يكرر بين حديثٍ وآخر، بأن الناس في ذلك الزمان، كانوا "يحبون بعضهم البعض" لا كما الآن لا يدري الجار بمُصابِ جاره على حد تعبيره.

يجد الحاج السبعيني الفرصة مواتيةً للحديث عن دفء البيوت حينها فيكمل: "كان بيت جاري هو بيتي أيضًا، ورغم أن المساحات قليلة، إلا أن البيوت كانت عامرةً بالحب، فلا نستاء من ضيق الحال أو شظف العيش، لأن الرضا كان يقطن دواخلنا، ويعطينا مخزونًا إضافيًا من الأمل".

"قلبي مشروح إلها"

بدأ الحاج صلاح بالمشاركة في أعمال الفرن، ومساعدة أبيه عندما بلغ من العمر سبعة، فتجذر حب الفرن وحكاياته في قلبه، وذلك لأن الأطفال يركضون خلف "الحنيّة" كما يقول الحاج صلاح، مستشهدًا بطفلٍ كان يقف داخل الفرن يشارك العمال الحديث والعمل مقابل بضع حباتٍ من الفستق.

"ونحن أحببنا الفرن بنفس هذه الطريقة عندما كنا أطفالًا" يعقب، قبل أن تقطع كلامه موجة ضحك سيطرت على المكان إثر صوت انفجار حبة "عين جمل" خرجت لتوها من الفرن مع قريناتها، ليأخذ من هذا فرصة إعطاء درسٍ عمليٍ لأحفاده الذين تناثروا بيننا كخلية نحل، ينفذُ كلٌّ منهم مهمته، ويسلم إتمامها للآخر "يجب أن تُفتح الحبَّة قليلًا قبل إدخالها للفرن، لتجنب مثل هذه الحوادث".

تعاقبت السنوات، وظهرت أحياء جديدة في قطاع غزة، وما عادت تقتصر على أحيائها القديمة فقط؛ إلا أن الحاج صلاح لم يفكر بالانتقال من الحي، أو الرحيل باتجاه المناطق الجديدة، أو الاستجابة لعروض بيع الفرن، ذلك لأن "هذا إرثٌ لا يُباع" يضيف، ويكمل: "قلبي ينتفض بالذكريات حين أمشي بالأزقة هنا، كأنما أُشاهد أبي وأجدادي، أشعر أنني أكمل الخطوات بأقدامهم، مُستمرًا بهذه الحرفة الشاقة، التي استعمر حبها أطرافي وقلبي انشرح لها".

"قلبي ينتفض بالذكريات حين أمشي بالأزقة هنا، كأنما أُشاهد أبي وأجدادي، أشعر أنني أكمل الخطوات بأقدامهم، مُستمرًا بهذه الحرفة الشاقة، التي استعمر حبها أطرفي، وقلبي انشرح لها".

يتابع: "أحفادي حملةُ شهاداتٍ جامعية، ويعملون معي في الفرن، التعليم لا يُلغي التراث، ولا يكون بديلًا عنه أبدًا"، معبرًا عن يقينه بأن أحفاده سيُعلِّمون هذه المهنة لأبنائهم أيضًا، "فيفنى الأشخاص وتخلد الفكرة"..

خبز الحرب

خلال عدوان عام 2014م، كانت عملية فتح الفرن بعد صلاة الفجر مباشرة، أشبه بمغامرة، في الوقت الذي ضُربت فيه البنية التحتية للحياة هنا، انقطع التيار الكهربائي فما عادت هناك قدرة على خبز العجين في البيت، والمخابز الحديثة لم تعد قادرة على الاستمرار لنقص الوقود المشغل لآلاتها، كان كل الناس يتوجهون إلى الفرن البلدي من كافة أنحاء القطاع، "في تلك الأيام، كنا نستمر في العمل إلى ما بعد منتصف الليل، كان كل همنا مساعدة المواطنين هنا، أولئك الذين شردتهم آلة الحرب وقتلت أحلامهم وحاضرهم ومستقبلهم".

"كنت أجازف بالتنقل من مكان إلى آخر تحت القصف المدوي، بحثًا عن الوقود لتشغيل الفرن، وهذا بسبب انقطاع الحطب وشُحّه، ثم أحضره ليستمر ابني وأحفادي بالعمل(...) لا نغلق الفرن إلا وقد خبزنا لكل المنتظرين" يضيف الحاج صلاح شارحًا تفاصيل المهمة الصعبة التي وقعت على عاتقه وقتئذ.

يفتح الحاج صلاح باب فرنه حين تلامس عقارب الساعة السادسة صباحًا، فيتوافد عليه أول الزبائن "الباعة المتجولون"، يطلبون شواء الفول والفستق، ثم يخرج كلٌّ منهم إلى طريق "رزقه"، لتبدأ بعد ذلك مرحلةُ "الخبز" التي لا تنتهي إلا بعد الساعة الثانية.

تشكر الحاج صلاح على صبره وعراقة رده، ثم تترك الفرن مخلفًا وراءك تاريخًا يلخص مسيرة الأجداد لقرنٍ ونصف مضى، عائدًا إلى الحاضر الذي تعيش.

تُغادر الفرن وحكايا الحاج صلاح تأبى أن تغادرك، العين تجوب أنحاء المكان دون أن تُفوّت التفاصيل، علّها تحفظ صورةً أخيرة، وفي القلب يقينٌ أن ذكريات كهذه لن تُنسى طيلة ما نكتبها ونسمع عنها.

كاريكاتـــــير