غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
بدأت عملها كمراسلة لقناة TRT عربي مع بداية الحرب. تمامًا بعد إنجاب ابنتها الصغرى بثلاثة أشهر. حملت رسالة المذعورين تحت نيران القصف في غزة، وعقلها مشتت، يفكر في العائلة تارةً، وفي البيت الذي أُنشئ بشقاء العمر تارةً، وبدموع الفاقدين تارة، وبقلوب الثكالى المحترقة تارات.
بعد كل استهداف للمنطقة التي نزحت إليها عائلتها، تهرول الصحافية ربا خالد نحو الهاتف. تبث ما في قلبها من محبة واشتياقٍ ولوعة، وتخفي مخاوفها العظيمة، تسألهم: "أنتم بخير؟"، فيجبونها بقوة: "اطمئني وأنجزي عملك.. لا عليك، الله معنا". تغلق، وتعود لتقف أمام الكاميرا، ثابتة، تقرأ الأخبار، وتجيب على استفسارات المذيع، بينما قلبها ينهار خشيةً من "فقدٍ" يزورها غفلة، تحت طائلة حرب الإبادة التي أعلنتها دولة الاحتلال على غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين أول الماضي.
تقول لـ"نوى": "تواصلت مع أولى لحظات الحرب مع أمي لتحتضن ابنتي خلال تواجدي في العمل. كل المحيطين بي دعموني وهذا كان فارقًا. بدأتُ العمل، وبقيت في أول أسبوعٍ لوحدي مراسلةً من غزة، حتى وصل زميلي وتقاسمنا العمل".
من شارع مستشفى الشفاء، إلى شارع النصر، فخان يونس، ثم رفح، ثم خانيونس نهايةً بعد اجتياح رفح في شهر مايو، نزحت ربا الأم لأربعة أطفال، (عمر أكبرهم 11). كان قلبها يُقتلع من محله في كل مرةٍ تقف فيها أمام الكاميرا لتقرأ خبر استهداف مكانٍ قريبٍ من مُستقر أهلها. "وبرغم أن أمي كانت تعتني بالصغار، إلا أن هذا بالنسبة لي كان مدعاةً لخوفٍ أكبر. أمي وأولادي أيضًا تحت النار".
أصعب المواقف التي مرت على ربا، هو ذلك الذي كانت فيه على الهواء مباشرة في مستشفى شهداء الأقصى، وجاءها خبر القصف مباشرةً لمدينة حمد بخانيونس. "حيث أهلي وأولادي نازحون هناك. بكيتُ على الهواء عندما سألتني زميلتي عن حال النازحين، ثم أكملت رسالتي وأنا مشلولة التفكير بعائلتي التي لم يصل أي خبر منها آنذاك" تضيف، متابعةً: "أنهيتُ يومها الرسالة، وهرعتُ إليهم فوجدتهم في الشارع مذهولين من هول ما حدث".
وليست ربا وحدها، صحافيات قطاع غزة، وخلال عشرة أشهر من الحرب والنار والقتل والفتك بكل ما هو فلسطيني، عشن ظروفًا صعبةً للغاية، تمامًا كما الصحافيين، بالإضافة لما يقع على عواتقهن من مسؤوليات، تتعلق بالأطفال، ورعايتهم، ومتابعة ظروفهم المعيشية، واحتياجاتهم الكثيرة، وعلى رأسها الاحتضان في ظل دوامة الخوف تلك. هذا التقرير سيلقي الضوء على معاناتهن، وإصرارهن على تقديم رسالةٍ خاليةٍ من شوائب الخطأ والنقص والخوف.
نعود إلى ربا، التي كان توفير الحليب لابنتها الرضيعة أمرًا شاقًا، جعلها تبحث يوميًا في المستشفيات والصيدليات، فقد كانت الكمية المتوفرة منه شحيحةً جدًا نتيجة إغلاق المعابر، وتعنت "إسرائيل" بإدخال المساعدات الإنسانية حتى للمناطق التي زعمت أنها "آمنة" جنوبي وادي غزة.
تزيد: "كان النزوح الأصعب، بعدما تركنا رفح وتوجهنا إلى دير البلح. كان المشهد صادمًا لأناسٍ لا يعرفون إلى أين يذهبون. هائمون على وجوههم مثلنا. لم نجد إلا أن ننصب خيمة، عانى فيها أطفالي الحر والخوف، ولدغ الحشرات. حاولت أن آخذ مواعيد مسائية للعمل حتى أبقى معهم خلال النهار، لكن كان هذا صعبًا، فكنت أضطر لأخذ طفلتي الصغرى معي، ويساعدني الزملاء في رعايتها أحيانًا كثيرة حتى أنهي رسالتي".
وتخبرنا الصحافية شروق شاهين مراسلة تلفزيون سوريا، عن تجربتها "الأصعب" كما وصفتها، في تغطية أحداث قطاع غزة، منذ بدأت العمل الميداني كمراسلة. وتقول: "تنقلت خلال تسعة أشهر من النزوح خمس مرات، من مستشفى الشفاء، إلى دير البلح، بينما أهلي باقون في شمال قطاع غزة، وهذه كانت النقطة الأصعب. أنا في الجنوب أغطي الحدث، وأهلي داخل الحدث نفسه".
تصف شروق هذه التغطية بـ"أكثر الخبرات صعوبة"، فهي تغطية حرب إبادة، وليست تغطية استهداف أو جولة تصعيد. تقول: "كل مقومات الحياة كانت معدومة، فقد كنت أنام في حضانة المستشفى أنا وإحدى الزميلات لثلاثين يومًا، بدون راحة. القسم مكتظ بالأمهات والأطفال. أنام لساعتين بعد الثانية عشر ليلًا، يتخللهم صوت الأطفال، والقصف، والشعور بالجوع والعطش والتعب".
وبعد انتقالها لمستشفى شهداء الأقصى، وارتفاع عدد الصحافيات والصحافيين النازحين إليها، عمد بعضهم إلى إنشاء خيمة ببعض القماش، وفصلها لقسمين، واحد للصحافيين، وآخر للصحافيات، "وكان انعدام الخصوصية آنذاك معضلة".
أسوأ ما في التجربة، كان عندما حضر أهلها من النصيرات، وأقاموا في بيت صديق والدها، ففرحت كثيرًا وكل ظنها أنها أخيرًا ستنام في بيت، وبين أهلها، وأحبتها، "لكن عندما استهدفت عائلة الصحفي وائل الدحدوح، بدأ الناس يخشون استقبال أي صحفي، وطلبوا مني عدم الوصول إلى البيت أبدًا" تستدرك.
لا تلوم شروق الناس، فكلهم يخشون على حياة أبنائهم، وبيوتهم التي بنوها بنور عيونهم، وهي تعلم أن هذا التفكير لم ينشأ من فراغ، ومن هنا بدأت تلتقي بأهلها في أماكن محايدة مراعاةً لطلب صاحب البيت، "وكان أبي كلما احتضنني قال لي: لعله الحضن الأخير، أما أنا فكنت أغادرهم وأنا أتساءل: هل سأراهم مرةً أخرى؟" تضيف.
وتذكر شروق مشاهد من تدمير مدينة غزة، عندما كانت نازحةً في مستشفى الشفاء، كما شهدت لوعة التهجير والفقد بكل أشكاله. متابعةً: "ورغم أن العمل حمل تحديات كثيرة، إلا أن هذه التحديات ضاعفت من قوة وإصرار الصحافيات على المواصلة، وأكبرها كان انقطاع الاتصالات والإنترنت".
عن ذلك تشرح: "كنا نحارب لنوصل الرسائل، وحينما انتشرت الشرائح الإلكترونية، كنا نصعد إلى سطح المستشفى لنقل الخبر، وهذه مخاطرة في ظل الإبادة".
وذاقت شروق مرارة الفقد أثناء عملها، عندما شعرت في لحظةٍ ما أن كل الصحافيين مستهدفين. تخبرنا: "زميلي الذي تشاركت معه العمل لأشهر استشهد. أحمد بدير، الذي ارتقى أمام بوابة مستشفى شهدا الأقصى وسط القطاع".
ولم تستطع الصحافية ناهد أبو هربيد التي تعمل مراسلةً لقناة الكوفية، تمالك نفسها على الهواء، وهي تلقي خبر اعتقال شقيقها المصاب، ومبتور القدمين، أمام مرأى النازحين في إحدى المدارس شمالي غزة، بعد أن جُرد من ملابسه وخلعت أطرافه الصناعية، ووُضع على ظهر الدبابة.
بكت ناهد أمام الشاشة على شقيقها الوحيد الذي تبقّى سندًا للعائلة بعد استشهاد اثنين في الشمال. وتحكي ودموعها تسبقها: "كنتُ أرى نفسي أمًا لأشقائي. فقدتهم كلهم، ولا أعلم مصير الثالث منهم"، مضيفةً: "لقد تلقيت تهديدات من الإعلام الإسرائيلي، وقالوا إن مصيري سيكون مثل مصيرهم، لكنني كنت أرد: "كله فدا فلسطين".
معاناة ناهد مركبة، وعمرها سنوات طويلة، فقد فقدت شقيقها محمود في حرب 2008م، وخرجت على الهواء تنعاه، كما خرجت في هذه الحرب لتنعى أخويه، بينما تنتظر أي خبر يطمئنها على شقيقها محمد، المعتقل.
كثيرة هي قصص الصحافيات، اللاتي شاركن في التغطية بين النزوح والآخر، وبين سطور الفقد كتبن قصص الآخرين وتحدثن عنهم، وبين كل دمعة وأخرى، خرجن برسالة على الهواء مباشرة، ليوصلوا صوت الحقيقة والمستضعفين تحت نيران "إسرائيل".