شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الثلاثاء 10 ديسمبر 2024م01:32 بتوقيت القدس

غزة.. اختبار القِيَم!

08 يوليو 2024 - 18:00

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

مأساة غزة لا تتمثل في اليوم التالي للحرب، بل بدأت منذ استمر حصارها برًا وجوًا وبحرًا لمدةٍ تزيد على 17 عامًا.

لقد عشت عمري، وشبابي، ونضجي، وحياتي من مخيم لاجئين بسبب نكبة عام 1948م، بعد أن أجبر والدي على الهجرة من قريتهما الصغيرة، لأسجَّل لاجئة، وأعيش طفولتي في مخيم الشابورة برفح.

طفولتي بأكملها عشتها بين أسطح الزينكو، والبيت الذي بنته أمي يدًا بيد مع أبي، يخلطان قليلًا من الطين والقش والماء، ليصنعا ساترًا عن الشارع.

ويومًا بعد يوم بينما تكبر أحلامي كطفلة بدأت تدرك مفهوم الحرية التي تنشدها، بينما ترى والديها يهرمان وهما لا يكفان عن الحديث عن قريتهما، وطريق التهجير الطويل عبر تل الصافي، ومن ثم مشيًا على الأقدام إلى غزة، ثم إلى دير البلح، فرفح على اعتبار أنها الأبعد عن بطش الاحتلال الإسرائيلي، رحل والدي بينما شربتُ القهر، وعرفت معنى الحصار والحبس بين جدران المدن. ذقتُ ويلات عدوانات متكررة، وعايشت مجزرة رفح في الأول من أغسطس عام 2014م، وفهمت معنى أن تكون بلدي محتلة. ضقتُ ذرعًا بالاستهتار بأولويات الناس، الذين دومًا يدفعون الثمن غاليًا من دمائهم وبيوتهم وأموالهم ومستقبلهم.

في كل مرةٍ فكرتُ فيها بالتخلص من كل هذا العذاب اليومي والركض بما تبقى خارج أسوار غزة، عدتُ اشتياقًا وحبًا إلى شوارع مدينتي.

في كل مرةٍ فكرتُ فيها بالتخلص من كل هذا العذاب اليومي والركض بما تبقى خارج أسوار غزة، عدتُ اشتياقًا وحبًا إلى شوارع مدينتي. لم أترك رفح رغم أن ظروف عملي تتوجب وجودي يوميًا في مدينة غزة، في الحقيقة لم أتمسك بها بقدر ما تمسكت هي بي، فبَدت كطفلة معلقة في رقبة أمها.

بنيتُ هناك بيتًا، وما كدت أسكن فيه وهو غير مكتمل البناء بعد جهود سنوات طويلة حتى حل الانقسام اللعين، لحقته عدوانات متكررة من الاحتلال الإسرائيلي، اخترقت الحواجز دومًا.

سافرتُ بعدها كثيرًا، وكنت أتذوق طعم الحرية وأعود أدراجي لأدرك أن الحرية إنما في بيتي، وبين ربوع وطني، والآن شاءت الأقدار أن أكون لأول مرة مغتربة، أعيشُ حربًا من نوع أخرى، لذلك لا يوجد يومًا تاليًا في حياة الغزي، فحياتنا عبارة عن قهر وقتل وتدمير ونضال مستمر لأجل الغد البعيد، واليوم التالي نعيش كل تداعياته لحظةً بلحظة.

نحن كغزيين، نعيش منذ اليوم الأول من الحرب تبعات اليوم التالي، واليوم التالي عبارة عن حروب مختلفة متعددة مركبة معقدة. غزة لم تعد غزة التي نعرفها قبل السابع من أكتوبر، لقد أصبحت مدينةً يتيمةً دمرها الاحتلال ببشاعة منقطعة النظير. غدت مدينةً بلا بيوت، وبدون أي تهويلٍ في الوصف فقد دمر الاحتلال حتى الآن، وبعد 280 يومًا من حرب الإبادة الجماعية المستمرة، أكثر من مئة وخمسين ألف وحدةٍ سكنية، بشكلٍ كلي، مادت بها الأرض لتصبح ركامًا وترابًا وغبارًا، بينما هنالك 80 ألف وحدة سكنية أخرى غير صالحة للسكن وقد دمّرها الاحتلال بقصد الخراب، وهنالك 200 ألف وحدة سكنية دمرها الاحتلال الإسرائيلي تدميرًا جزئيًا ولن تكون ملائمة ليعيش فيها الناس بظروفٍ لائقة. هذه الإحصاءات قابلة للزيادة حين تضع الحرب أوزارها، وتتشكل اللجان الهندسية لفحص ما تبقى من مساكن وبيوت وعمارات، تقف على أربع، إلا أنها خاوية على موتها، ولن تكون ملائمة للسكن.

أزمة سكن مرعبة في الأفق

أين سيعيش أهالينا الذي دمرت وحداتهم السكنية وبيوتهم ومصانعهم وأبواب رزقهم؟ أين يمكن أن يسكنوا عمليًا؟ ما الذي سيعوضهم ومن الذين سيعوضونهم؟ وكيف؟ وأين سيمكنهم أن يسكنوا ولا بيوت في المدينة! لقد احتل الركام كل المساحات، وباتت الشوارع والأحياء مختلطة حتى على من كان جذرًا متصلبًا فيها.

عبد الله الدرديري: "هذه مهمة لم يسبق للمجتمع الدولي أن تعامل معها منذ الحرب العالمية الثانية"

"إنها مهمة لم يسبق للمجتمع الدولي أن تعامل معها منذ الحرب العالمية الثانية"، هذا ما قاله الأمين المساعد للأمم المتحدة ومدير المكتب الإقليمي للدول العربية في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عبدالله الدردري، في مؤتمرٍ صحافي في عَمّان. إن إعادة الإعمار في قطاع غزة "قضية مكلفة للغاية، وستستغرق وقتًا طويلًا"، وقد تبلغ التكلفة حوالي 18 مليار دولار بحسب ما التقطتهُ الأقمارُ الصناعية من دمار، "لكن هذه ليست القيمة النهائية على الأرض".

إن تقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الأولية لإعادة بناء كلّ ما دُمّر في غزة تتجاوز الـ 40 مليار دولار، بينما جبر الضرر المفروض من الاحتلال يغيب في كل مرة يدمر فيها غزة، فلا مساءلة حقيقة، وفي كل مرة يفلت الاحتلال من العقاب، ومن جبر الضرر، كمتسببٍ رئيسٍ في كل هذا الدمار.

إعادة بناء الإنسان

الإسناد للفلسطيني في غزة يتوجب أن يكون اسنادًا نفسيًا معنويًا، ثم ماديًا، ليتمكن من التهيئة لإعادة فكرة الحياة الطبيعية والشغف بالحياة. ضحكَت إحدى الصديقات بمرارة حين تحدثتُ عن "الشغف. كيف نعيد شغف الحياة للفلسطيني؟"، مستنكرة بقولها: "لم يبق هناك حياة، ليتبقى لدينا أمل، أو حتى شغف لأي شيء".

حقيقةً هذا صحيح تمامًا، إلا أننا يجب أن نعاند المعتاد، أي أن لا نعتاد الموت ما دمنا بقينا أحياء.

إن الاعمار الحقيقي المطلوب الآن، هو إعادة بناء إنسانيتنا، وصدمتنا بتخلي العالم عنا. الصدمات ليست فقط فقدان وحرمان من الطعام والأمان والاستقرار والحياة الطبيعية، الصدمة الكبرى، أن نكون وحدنا، أجساد تواجه الصواريخ، وخيام تواجه القنابل الفتاكة!

الاعمار الحقيقي المطلوب الآن، هو إعادة بناء إنسانيتنا، وصدمتنا بتخلي العالم عنا.

صدمة أن نستمر في موت وحشيٍ بشعٍ وقذر، طيلة 9 أشهر، بينما لم نأخذ إلا الشعارات. الصدمة أن يكون دمنا رخيص إلى هذا الحد! هذا أمرٌ مرعبٌ حقًا.. أن يرى الجميع المجازر التي ارتُكبت والأشلاء والرؤوس التي طارت، وتلك التي احترقت، والعالم يمضي غير عابئ بدمنا أو بأطفالنا أو أهلنا، هذه صدمة إنسانية تفوق الوصف.

يجب أن نعيد الثقة لأنفسنا بأن هنالك ما يستحق الحياة، وهنالك فعليًا ما يستحق النضال من أجله. الأطفال الذين ما زالوا على قيد الحياة، والأمهات اللواتي ما زلن يحملن الزهور في قلوبهن والحب في فؤادهن، والرجال الذي صمدوا رغم التجويع والقهر والحرمان، يجب أن نكافئهم بأن نقف إلى جانبهم، أفرادًا ومؤسسات، وائتلافات، وقوى ثورية، ونسوية، وشعبية.

يجب أن تكون هنالك رؤية لليوم التالي لمن هم خارج غزة، إن كانت لديهم قيم إنسانية نابضة حتى اللحظة، أن يشرعوا بخططهم ورؤاهم الآن، وقبل اليوم التالي للحرب، من أجل الإجابة على سؤال: كيف ندعم أهل غزة فعلًا لا قولًا؟

كيف نقف إلى جانب الغزيين؟ وهذه الإجابة يجب أن تكون من الفلسطيني خارج غزة، والعربي، وكل من يملك قلب إنسان. هنالك الكثير لفعله والقيام به، ما له علاقة بالوضع الإنساني والدعم النفسي والاحتضان. نعم قد تبني إنسانًا آخر بكلماتٍ مشجعة تشعره أنه ليس وحيدًا.

يجب أن نملك جميعًا إجابة لما يجب أن نقدمه لكل أهل غزة، الذين واجهوا كل أنواع القتل والتجويع في حرب قذرة.. كي ننجو بإنسانيتنا على الأقل.

يجب أن نملك جميعًا إجابة لما يجب أن نقدمه لكل أهل غزة، الذين واجهوا كل أنواع القتل والتجويع في حرب قذرة، يجب أن نفعل ذلك، ليس من باب مساعدة الآخر، بل كي ننجو بإنسانيتنا على الأقل.

إن غزة هي البوصلة الأخلاقية اليوم للعالم، فإما أن نواجه معًا، وندعم أهلها معًا، أو أن نتواطأ بالصمت والمزيد من الخذلان، وهذا يتنافى مع مبادئنا، فجميعنا من مكانه وموضعه يجب أن يبدأ التفكير، كيف ننقذ ما تبقى من غزة في اليوم التالي للحرب؟  باحثين ومفكرين وإعلاميين وأطباء وأدباء ومثقفين ومهندسين وطلبة. يجب أن نرفع شعارًا لننقذ من نجوا ولا نتركهم وحيدين يكابدون وحدهم ويلات ما بعد الحرب.. حين تضع أوزارها!

الجميع صامد لأنه صامد في وطنه، وحين تخرس القنابل قد ينهار الكثيرين من الذين احتملوا أضعافًا فوق طاقتهم، يجب أن نكون إلى جانبهم، فالمسافات لا تمنعنا من أن نحتضن آلامهم، أن نوصل أصواتهم الحرة، وأن نعيد الابتسامة لأطفالهم أو نرسم لأجلهم، وأن نقدم كل ما يمكننا من مبادرات، أو ائتلافات لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي والاقتصادي والتنموي.

الصمود والتمكين وتعزيز قوة الناس، وتقديم الخدمات الصحية والنفسية والإغاثية بكرامة وعدالة وصولًا لاكتفائهم الذاتي، مع توفير فرص تعزيز صلابتهم النفسية وصولًا لتحقيق العدالة الإنسانية، هذا ما يجب أن يكون عليه اليوم التالي لحربٍ استمرّت تسعة أشهر كي ينجو من نجا، وكي نكرِّم الشهداء والعائلات، التي فُقدت من السجل المدني.

علينا أن نفعل ونفكر خارج صندوق الحصار والموت المجاني، وأن نعيد لإنسانيتنا بوصلتها الحقيقية!

كاريكاتـــــير