شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الخميس 18 ابريل 2024م04:20 بتوقيت القدس

تجمعٌ لليافاويين بمخيم جباليا..

عن "يافا" المخبّأة في قلب "حارة" بغزة

10 اعسطس 2020 - 09:28

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

عندما أجبرت العصابات الصهيونية اللاجئين الفلسطينيين بقوة السلاح على ترك قراهم ومدنهم عام 1948م، حاول أهل القرية، أو المدينة الواحدة العيش في تجمعات متقاربة داخل خيامهم التي نصبوها أوائل خمسينيات القرن الماضي، ما ساعد على تسمية المناطق والحواري والأحياء داخل مخيمات اللاجئين التي بنيت بالحجر فيما بعد بأسماء غالبية سكانها.

"حارة اليافاوية" في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، واحدة من المناطق التي يتجمع فيها المهجّرون من أهل "يافا" الواقعة شمال غربي القدس، هناك يعيشون لحظةً بلحظةٍ على أمل العودة رغم الظروف الصعبة التي تمر بها قضيتهم، ويرسّخون تسمية "الحارة" كي لا ينسى أبناء الجيل الجديد أنهم من هناك، من "يافا الحلوة" كما يصفونها كلهم.

من داخل منزلها في الحارة، تستذكر الثمانينية وجيهة الهرش يوم خروج عائلتها من يافا، فتقول: "خرجنا حفاة، تركنا ملابسنا وأموالنا، قالوا لنا إننا سنرجع بعد سبعة أيام، لكن الأيام السبعة لم تنته حتى يومنا هذا"، تصمت قليلًا قبل أن تتابع بنبرة أسى: "أشعر بأنني سأموت وأنا انتظر عودتي الي حوش البيت الذي كنت ألعب فيه صغيرة".

لا تكف الهرش عن مناداة مدينتها بـ "الحلوة"، ففيها منطقة العجمي التي كانت "قطعة من الجنة" على حد تعبيرها، حيث كانت هي وإخوتها يلعبون تحت شجرات البرتقال في الحوش الكبير، قبل أن تحل الكارثة، "حينها جاءت أمي تصرخ: يلا يما بدنا نروح بسرعة، وسحبتنا من إيدينا واحنا مذهولين، مش عارفين شو صاير".

بغمضة عين، انتقلت الهرش من يافا إلى مكانٍ لا تعرفه، تتابع: "ركبنا شاحنة، وكانت خلفنا أخرى، ومشينا في شارع طويل جدًا، وأنا بعيوني الصغيرة جلستُ أنظر خلفي لساعاتٍ وأبكي بحرقة، بينما أمي تنظر برعب إلى الشاحنة التي خلفنا، تلك التي أوقفها اليهود وأنزلوا من فيها وذبحوهم جميعًا".

في تلك اللحظة سمعت الفتاة الصغيرة صوت عمها يقول للسائق: "إذا وقفوك ووقفت راح أحط الفرد براسك، أسرع قد ما تقدر، ولا تخليهم يلحقوك"، بعدها كادت الشاحنة أن تطير لفرط السرعة.

في تلك اللحظة سمعت الفتاة الصغيرة صوت عمها يقول للسائق: "إذا وقفوك ووقفت راح أحط الفرد براسك، أسرع قد ما تقدر، ولا تخليهم يلحقوك"، بعدها كادت الشاحنة أن تطير لفرط السرعة.

لم يعلم السائق حينها أنه أنزل السكان في مكانٍ سيصبح مأواهم 70 عامًا وأكثر، في بقعةٍ فارغة من شمال قطاع غزة (مخيم جباليا حاليًا) نزلت النساء من الشاحنة، ونزل الأطفال، بينما ذهب الرجال يبحثون عن طعام.

بدأت مرحلة الاستقرار في المخيم، الحياة كانت فقرة، عكس ما كانت عليه في يافا حيث الأشجار المتنوعة من الفواكه والحمضيات، حوش الدار الواسع، والمياه العذبة المتوفرة.

تضيف: "كانت بنات الجيران يأتين للعب معي في حوش البيت، وكانت النسوة تجتمع على باب البيت لتطريز الأثواب الخاصة بهن، كانت منطقتنا موصوفة بجمالها، وثياب أهلها التقليدية الرائعة".

كان الرجال في تلك الحقبة يلبسون السراويل والقمصان والبراطيش "الأحذية"، أما النساء فكن جميلات حسب وصف الهرش في الثوب اليافاوي والعصبة فوق رؤوسهم، أما مختار البلد فكان يرتدي جلابية بيضاء مع عِمة فوق رأسه، يجلس دومًا في بيته الواسع، وحوله الرجال يتجمعون بعد صلاة المغرب.

تختم السيدة المسنة حديثها بأمنية رافقتها دمعة: "والله يا بنتي لو اروح ع يافا لو دقيقة واحدة يمكن يرد فيا الروح".

حياة المخيم وذكريات الأرض

يصر أهل "سكنة اليافاوية" على التمسك والاحتفاظ بعاداتهم وتقاليدهم ولهجتهم اللطيفة المشهور بـ "الآل" تبعًا لأحمد أبو سيف 46 عامًا، الذي قال: "الأجداد ممن عاصروا يافا قبل النكبة، حاولوا نقل جميع تفاصيل الحياة في يافا إلى أبنائهم وأحفادهم داخل الحارة على أمل العودة القريبة، كانوا كلما سمعوا مقولة جولدا مائير (الكبار يموتون والصغار ينسون) يحاولون بشكلٍ مستميت نقل حلم العودة إلى الجيل الذي يليهم، زرعوا فيهم حب الوطن وتفاصيل العز التي كانت فيه، والصغار فعلًا لم ولن ينسوا".

حياة المخيم ليست سهلة (والحديث لأبو سيف)، إذ لا زالت المخيمات كما هي على حالها منذ أكثر من 40 عامًا، بيوتٌ متلاصقة، وأزقة ضيقة، وبنية تحتية سيئة، واكتظاظ سكاني. يزيد بحرقة: "هذا حالنا بعد أن كان لدى كل عائلة منا دونمات من الأراضي، عاش أهلنا في بيوتٍ من الصفيح حتى بدأت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أنروا" بالإشراف على شؤون المخيمات بعد تأسيسها عام 1950م، وبناء بيوتٍ صغيرة من الحجر لكل عائلة".

جد الأربعيني أحمد، محمد أبو سيف، كان لا ينفك يحدثه عن يافا، يحكي له عن شوارعها وحكاياتها، ويخبره عن ممتلكاته هناك من عقارات وأراض "والوثائق موجودة لدي حتى اللحظة" يقول، متابعًا: "كان يقول لي بالحرف الواحد: مهما مر الوقت، سنرجع لبيوتنا، ليافا السكنة، وسكنة درويش، ويافا العجمي، ويافا المنشية، راح نرجع نزرع الفواكه والحمضيات".

كان الجد أبو سيف يجمع حوله الرجال في مقعده داخل المخيم مساءً، يسترجع معهم ذكريات يافا السكنة، وألعاب الشباب: السيكة، والإدريس، كانوا يتحدثون عن الأهالي الطيبين والمحبين لبعضهم، مدارس يافا، جوامعها، والشوارع المزينة والمرصوفة.

وتتنوع عائلات سكنة يافا ما بين، أبو سيف، الأسود، شاهين، الهرش، الغندور السقا، والكثير من العائلات، ومعظمهم يحافظون على لهجة أهل يافا يتحدث بها الرجل والمرأة هناك، بينما أغلب النساء الكبيرات في السن، ما زلن يحافظن على الثوب الفلسطيني ويتمسكن به، تعبيرًا عن ارتباطهن بالأرض.

يردف أحمد: "تجدنا يدًا واحدة في الفرح والترح، نُحيي تراثنا داخل "السكنة"، ففي الفرح نقوم بزفة العريس الأصيلة نحن الرجال، ونغني له الأهازيج مثل: يا زريف الطول، أما في الترح، فالكل يتواجد ويغلق محاله التجارية، ويشارك أهل الميت الدفنة والعزاء".

والد أحمد الذي يبلغ من العمر اليوم 90 عامًا ترك يافا وهو يعي كل تفاصيل الحياة فيها، حتى أنه حاول مرارًا العودة إليها، ليتحقق أمله أخيرًا كعاملٍ فيها، بعد أن كان أهله من الأعيان وأصحاب الأملاك.

"ولكن حنينه لزيارة المكان الذي ولد فيه، كان أقوى من أي حسابات ثانية، كان هناك يذهب للصلاة في الجامع الكبير، ويطل على البيارات التي استولي عليها اليهود، يمر في حي العجمي الذي تم تحويله إلى مزار سياحي للأجانب، بعد هدم معالم العديد من الحارات في محاولة لطمس هويتها الفلسطينية".

يشارك في الحديث يحيى الأسود، فيقولك "أنا ولدت في حارة اليافاوية، هنا، ودائمًا أسمع ذكريات الكبار، وأتخيل حياتنا فيما لو كنا في يافا، أتمنى رؤيتها حقًا، فالجمال في الوصف بالتأكيد لا يضاهي رؤيا العين".

يضيف: "تعلمت اللهجة اليافاوية، وأتحدث بها كوالدي، رغم استغراب الشباب من حولي، إلا أنني أفتخر بها، أسعدُ جدًا حينما ينادي علي أصدقائي بـ اليافاوي".

بتنهيدةٍ مريرة يعود إلى واقع المخيم، ويتمتم: "وين نحنا ووين يافا، الوصول لأمريكا أسهل من الوصول ليافا اللي بتبعد عنا ساعتين بالكتير".

عمر يحيى اليوم 16 عامًا، إلا أنه لم يترك المخيم أو حي السكنة يومًا، ولم يسافر حتى. يعلق: "الحياة صعبة، والظروف الاقتصادية أصعب، لكنني طموح، سأكمل دراستي الثانوية، وأحاول الحصول على منحة دراسية تجعلني أحقق طموحي، وأخبر العالم أجمع، بأن فلسطين بأبنائها صامدة وأن حق العودة لا يسقط بالتقادم".

كاريكاتـــــير