شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الثلاثاء 23 ابريل 2024م19:42 بتوقيت القدس

بعد الاحتلال "كورونا"!

عن "الخوف" الذي استوطن غزة

05 ابريل 2020 - 16:33

غزّة:

طائرات استطلاع إسرائيلية تطنُّ كالذبابة فوق رؤوسنا، و"كورونا" بشكله الكروي المخيف يحاصرنا في كل مكان، فكيف لي، أنا، الأم الجديدة، العاملة في مهنة الصحافة، وزوجة الرجل الذي يعمل في المهنة ذاتها، أن أتعايش مع الأمر؟ في الحقيقة، إن حياتنا كفلسطينيين نعيش في قطاع غزّة لم تكن ولا ليومٍ واحد، خالية من الضغوطات النفسية، ولا بأي شكل من الأشكال "ما إجت على كورونا يعني".

غزّة.. هل نبدأ بالحديث عن الخوف؟ أي خوف هذا الذي سأحكي عنه هذه المرّة؟ الاحتلال؟ الحصار؟ الانقسام؟ الفقر؟ أم الحرب؟ هذه التي لا أملّ من الحديث عنها، التي صرت مشهورة بالكتابة عنها، أو عن "كورونا" الذي يجتاح العالم؟ فهل كلّ العالم يشعرون بما أشعر أنا؟ أسئلة مرهقة حقيقة.

كنت قد وضعت طفلي الأول بسلامٍ يوم السّابع من يناير/ كانون الثاني للعام ٢٠٢٠م، أو كنت اعتقدتُ أنني وضعته بسلام، لتعود طائرات الاحتلال بصفع الأرض من تحتنا بعدّة صواريخ في جولة تصعيد اندلعت في الخامس عشر من الشهر ذاته، أي بعد أسبوعٍ واحد من ولادة ابني "عُمَرْ"، هزّت منزلنا وهزّت جمجمتي، أيقظتني لأتساءل مجددًا، أي سلام هذا الذي ننجب فيه أطفالًا بغزة؟

في ٢٢ مارس/آذار، أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية عن أول إصابتين بفايروس "كورونا" لفلسطينيين قدِما من الباكستان عبر معبر رفح البرّي، إعلانٌ جاء في منتصف الليل، ضربنا خلال سهرةٍ عائلية بينما كنّا نبدي استيائنا من العالم الذي يتحدّث عن "فوائد" حصار غزّة، الذي منع الوباء عنها حتى قُضي الأمر.

في تلك الليلة، كنت أنا أحتضن طفلي، وزوجي وشقيقته آية يجلسان أمامي، نشارك بعضنا البعض معلوماتٍ كنّا قد قرأناها عن الفايروس، حتى وصلتني رسالة من صديق يقول فيها: "رح يعلنوا كمان شوي عن أول إصابتين كورونا في غزّة".. ما كان منّي إلا أن شهقت مرتبكة ثم قلت: "إلحقوا، كورونا وصلت غزة، كورونا وصلت غزّة".

وكأن الزمن توقّف عند تلك اللحظة، ثلاثتنا نتمعّن بشاشات هواتفنا، ثلاثتنا ننتظر إعلان "الصحّة" الرسمي، حتى حدث بالفعل!

كورونا الآن في غزّة، أصاب مسنيْن وحالتهما مستقرّة. لا أعلم ولا أتذكر كيف تفرقنا، انسحبنا إلى أسرتنا. ورحت أنا أحتضن عمر أكثر وأقول له: "خفت عليك من الحرب، أتيت في عامٍ يمكن ألا يتكرر يا عمر، أتيت في زمن كورونا يا ماما".

كانت ليلةً قاسية البرودة، أو هو الخوف الذي أشعرنا بذلك، لا أدري. لم ننم. ننظر إلى بعضنا البعض أنا وزوجي أنس، بصمتٍ كأننا نسأل "ماذا سيحل بنا؟"، غزة لا تتحمل هذا الوباء، فلا إمكانات تؤهلها لاحتوائه، ولا أدوية متوفرة للمرضى في الوضع الطبيعي بسبب الحصار، فهذا عدوّ خفي! يشبه الاحتلال، لا يرحم أحدًا، سينال منّا جميعًا كما تنال منّا الطائرات في الحرب. لأننا فلسطينيون فقط، الفايروس كذلك.. يهاجمنا بلا سبب فقط لأننا من بني البشر! 

العمل؟! من ناحية العمل بالنسبة لي كان الأمر محسومًا، فمؤسسة "فلسطينيات" التي أعمل بها، تتفهم خطورة الوضع بشكل كبير، فأصدرت قرارها بأن نعمل من المنزل "قبل إعلان حالة الطوارئ في الأراضي الفلسطينية" لأن الأهم لديها سلامتنا "وأي شيء بعد ذلك ثانوي"، على خلاف ما حدث مع أنس الذي يعمل مصورًا لدى إحدى وكالات الإعلام، ويُعدّ وجوده في الميدان ضروريًا ليقوم بتغطية الأحداث الجارية بهذا الوضع.

لعل عمله المستمر من الميدان يمنعنا فعليًا من الالتزام بالحجر المنزلي كنوعٍ من الحماية، إلا أننا نحاول اتخاذ إجراءات الوقاية التي غالبًا ما تقع على عاتقي.

"زيّ المكوك" وصفتني إحداهن، عندما تحدثت لها عن تجربة العمل من المنزل، فبين التعامل مع طفلٍ حديث الولادة وللمرة الأولى -ليست قصةً سهلة- بل إنها عظيمة بكل تفاصيلها ومهولة: لا نوم. لا هدوء. لا راحة ولا أمان! وبين هذا، وذاك يجب علي إتمام مهام العمل، أضف إلى ذلك تدبير أمور المنزل أيضًا من مأكلٍ، ومشرب، وتنظيف، وترتيب، وتوضيب، هذا غير عملية التعقيم المستمرة ٢٤ ساعة، والتعامل مع أنس على أنه حامل للفايروس! وبالتالي توجد عناية مضاعفة بشخصه، وكل أدواته وأغراضه.

من الجميل أحياناً أن يجلس المرء في داره، لكن هذا الجمال وبكل أسف نُحرم منه – نحن الفلسطينون– بسبب الاحتلال الذي يمنعنا حتى من اقتناء أبسط الأشياء نظراً لاعتقادنا: "ليش أشتريها؟ يمكن يصير قصف على البيت ونموت أو نفقدها!".

"أكلتنا الهموم" حرفياً أكلتنا ولا تزال، إن أكثر ما يجمعنا هنا هو الخوف، بالدرجة الأولى والأخيرة: الخوف من الاحتلال، وبالدرجة الجديدة: الخوف من كورونا. 

اخبار ذات صلة
كاريكاتـــــير