شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الجمعة 29 مارس 2024م10:12 بتوقيت القدس

كورونا في زمن الحصار..

بحر غزة يغيبُ عن قصص أبنائه

31 مارس 2020 - 19:07

قطاع غزّة:

"أين أبنائي؟" لو كان البحر يتكلم لَقالها! "صديقُنا الأزرق الأمين" وأحلى الخيارات المُرّة للتنزه داخل قطاع غزة، لم يعُد يضحك!

كان شباب المدينة أمامه يغرقون في أحاديثهم الروتينية، هذا يخبره أنه لم يجد عملًا، وذاك يحدثه سرًا بنيته السفر، وآخر يبث إليه هم "تكاليف علاجه"، وغيرهم يشكون أمامه انقطاع الكهرباء، وانعدام الشعور بالأمان.. والحياة.

كيف سينجو الفلسطينيون في غزّة من عزلة كورونا؟ العزلة قائمة على أية حال، في ظل حصارٍ أطبق منذ 14 عامًا على أنفاس أكثر من مليوني إنسان يعيشون داخل القطاع، "المكوث في المنزل" لم يكن يومًا أمرًا طبيعيًا بالنسبة لهم، وكان أمامهم "البحر" واسعًا يزورونه كلما ضاقت صدورهم بما تحمله من قهر، "كورونا" أغلق البحر، بل أغلق عليهم حتى أبواب منازلهم لتصبح منافذ الروح أضيق بكثيرٍ من عنق الزجاجة.

"من فيسبوك إلى تويتر إلى أنستغرام ثمّ سناب شات"، هكذا باتت إيمان عبد الرحيم، تمرر وقتها داخل جدران منزلها التزامًا بالحجر المنزلي، تقول ساخرةً: "هذه ليست خيارات بالطبع، أصلًا ولا مرّة كان قدام الغزاوية خيارات، هكذا فُرِضَت علينا كورونا، كما فُرِض علينا الحصار منذ ١٤ عامًا".

"اشتقتِ للبحر؟"، كان السؤال المباشر. تنهّدت الشابة االتي وُلِدت قبل ٢٤ عامًا وقالت: "هو إحنا شفنا بحياتنا غير بحرك يا غزّة؟ وإذا ما اشتقنا للبحر لشو بدنا نشتاق؟".

وتوضح أنها كلّ الوقت تحمل هاتفها، تأخذ جولة على حساباتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ثمّ تنتقل إلى صور الاستديو الذي يشكّل ملاذًا لمراجعة الذكريات التي لا يُمل منها، فصور البحر تعجّ به، صورٌ يومية للمكان ذاته، للأمواج التي تضرب الصخر فرحًا كلّما تجمّعت الشابة وصديقاتها لالتقاط "سيلفي" هناك.

"فنجان قهوة ورفيق يحكي عن بؤسنا في هذه المدينة أمام البحر" صار هذا أقصى ما يتمناه محمد عايش (٣١ عامًا) وسط عزلة كورونا، الشاب الذي قرّر أن يخضع نفسه وعائلته للحجر المنزلي تفاديًا لإصابة محتملة من الوباء، بعدما كان يحلم بالسفر والخروج من غزّة، صار يحلم بالخروج من المنزل إلى البحر.. البحر فقط".

يحدث "نوى" فيقول: "كلّما مررت عن الكورنيش، أحسست بأن البحر ليس كما اعتدنا عليه، يبدو كما لو كان حزينًا يبحث عنا!"، هذا المكان الذي يكاد لا يخلو من النّاس، حين تشرق الشمس وحين تغيب حتى في أشدّ الأيام برودة، أمسى وحده الآن، 

هو المتنفس الوحيد للفلسطينيين داخل قطاع غزة، أو بالأصح، هو المتنفس الوحيد الذي تركته "إسرائيل" لأهالي غزة "منقوصًا" حين سمحت بالدخول إليه مسافة 9 أميالٍ بحرية وهذا للصيادين فقط، بينما تركت الشاطئ للناس مع فرصةٍ لمشاهدة أمواج البحر، "ولا نبالغ حين نقول إن الأمواج من الأشياء النادرة التجدد في وضع كوضع غزّة الراكد بل المنعدم" وفق محمد.

"وقت البحر وين راح؟" يجيب الشاب أنه منذ بداية الحجر، وهو يتبادل صوره، وصور فناجين القهوة، وصور الناس، وحتى صور الحيوانات من أمام البحر مع أصدقائه، برغم وجودها في هواتفهم أيضًا، لكنّه يجدها طريقة لتناسي العزلة، وتجديد الطاقة الإيجابية التي يبعثها البحر لأبناء مدينته.

حنين القيشاوي (٢٦ عامًا) تقول: "البحر وحده ينقذنا، ومع عزلتنا بسبب كورونا فإننا نغرق الآن مثلما نغرق في كلّ جولة تصعيد أو حرب يشنها الاحتلال".

من حربٍ إلى حرب، هكذا ترى حنين الوضع هنا، استراحة لالتقاط الأنفاس ثمّ العودة إلى الموت الذي  يُعدُّ الفلسطينيون أسهل هدفٍ له، مع مراعاة أن الفاعل هذه المرّة "فايروس".

لأوّل مرة يختلف القاتل، فعندما تشنّ "إسرائيل" عدوانها، تراقب الشابة شريط الأخبار العاجلة عبر التلفاز، تُقلّب كل القنوات بحثًا عن نبأ تهدئة كي تهمّ لمواعدة صديقاتها والذهاب معهم إلى البحر، "فهناك تتجدّد روحها التي انطفأت" كما تُعبّر.

أمّا اليوم؟ فتصف حنين ما يحدث بـ"حرب الأعصاب"، إذ ليس من محلل ولا خبير، يمكنه التنبؤ بميعاد توقفها، هي ملزمةٌ بالمكوث في البيت، "حيث لا تستطيع الهرب الآن من التفكير، ولا من نشرات الأخبار، ولا من أحاديث الأسرة المتكررة"، كونها تعرف أن لا معاد محدد لتوقف انتشار الوباء، ولا أمل قريب ينتزعها إلى البحر الذي سيهوّن عليها الأمر وما فعل كورونا! 

ليس بالإمكان قراءة هذه الردّ بمعزل عن ممارسات الاحتلال ضدّ الفلسطينيين، تحديدًا فئة الشباب الذين ولدوا في زمن الحصار، وزمن الحروب، وكلّ جولات التصعيد، 

غاب البحر عن قصص الفلسطينيين الآنية في غزّة، يظهر في الذكريات فقط. إنّهم وحيدون الآن، لكنّ هديره يُسمع، يتسرّب من منازلهم وعبر نوافذهم الافتراضية لكلّ العالم، هؤلاء النّاجون من كلّ الحروب سيعودون بالتأكيد ليتحسسوا رماله، أما هو فسيقذفهم برذاذ أمواجه، ثم يسمعهم وهم يغنّون: "أهو ده اللي صار يا شيخ إمام"..

كاريكاتـــــير