شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الثلاثاء 16 ابريل 2024م16:14 بتوقيت القدس

هدى أبو خوصة

راعية الغنم.. منسقة البرامج في "مؤسسة دولية"

13 مارس 2020 - 17:40

شبكة نوى، فلسطينيات: تقف بكل ثقة أمام لفيفٍ من النساء كمُيسّرة لحلقة تفريغٍ نفسي تنفذها مؤسسة دولية، هذا الحلم الذي لطالما راودها بينما كانت تلاحق غنماتها في الشوارع المؤدية للأراضي الزراعية في بلدة جباليا شمال قطاع غزة حيثُ تقيمُ أسرتها البسيطة.

تحدثُ "هدى أبو خوصة" ابنة الـ (24 عامًا) نفسَها والابتسامة تعلو محيّاها: "كنت أرى في نفسي شيئًا مختلفًا، وكنتُ على ثقة بأنني سأكون ما أريد".

في بيئة ريفية، نشأت هدى التي كانت وأسرتها تعتاشُ على تربية الأغنام، ورعيِها، وبيع حليبِها وجُبنها، لكنها كانت تتوق منذ طفولتها للعلم، وتعشقُ الذهاب إلى المدرسة لتتعلم كتابة اسمها، والكثير مما يدور حولها في هذه الحياة.

كانت فرحتها عارمة، وهي ترتدي زيها المدرسي في اليوم الأول للمدرسة، استغربت بُكاء قريناتها وبحثهن عن أمهاتهن، بينما كانت هي تتطلع لأن تنهل من بحور العلم.

بمرور الوقت بدأت تلاحظ الاختلاف بين لهجتها ومفاهيمها ذات الطابع البدوي، وطريقة حديث زميلاتها داخل الصف، فبدأت بإتقان لهجتهن –ليس لأنها شعرت بأنها أقل شأنًا منهن- بل لأنها أرادت الانخراط في مجتمعهن  

محاولات تنمر كثيرة تعرضت لها هدى خلال مسيرتها التعليمية في سنواتها الأولى، لم تدفعها للتوقف، تقول لـ "نوى": " كان هدفي أكبر وأسمى من أن توقفني تلك الصغائر، مثل أن أنعت بالسوداء (كناية عن لون بشرتها الأسمر)، أو راعية الغنم ذات الملابس المدرسية".

وتكمل والابتسامة لا تفارقها: "كنت  متصالحةً جدًا مع نفسي، أحبها وأقدرها حينما يهملها الآخرون، كنت قوية بما فيه الكفاية لأن أتجاهل كل هذه الكلمات".

تتذكر هدى، كيف كانت صدمتها حينما أخبرها والدها وهي في الصف السادس بأن هذه السنة، هي الأخيرة لها في التعليم، تقول: "قال لي: لا أحد في بنات عائلتنا أكمل تعليمه لأكثر من الصف السادس، وانتِ مثلهن"، معلقةً على ذلك المشهد: "نزل حديثه عليَّ كالصاعقة، كيف سأحرم من تحقيق حلمي؟ من شغفي بالعلم؟ من العالم الذي أشعر بنفسي فيه؟ أنا لا أريد أن أعيش وأموت راعية أغنام".

تتابع: "عقلي الطفولي، لم يستوعب في حينها سبب منعه لي، ظننت أن السبب يعود لبعد المدرسة عن منزلي، كنت أسير يومياً 40 دقيقة في الذهاب، ومثلها في الإياب، فبدأت أدعو ربي أن يقترب منزلي من المدرسة، وأحلم به أن ينتقل إلى هناك".

بعد مداولات، وافق والد هدى على أن تكمل الإعدادية بشرط أن تتغيب كل ثلاثاء لتتفرغ لرعي الغنم من الفجر حتى المساء، بالإضافة إلى رعايتها في الأيام العادية في فترة ما بعد العودة من المدرسة.

كانت تفتح كتبها وتراجع دروسها وتكتب واجباتها خلال رعي الأغنام، تضحك كلما تذكرت تلك الفترة وتردف: "كنتُ أقرأ الأشعار للأغنام، وأشرح الدروس لهن، كان المارة يصفونني بالمجنونة، لأني أفعل ذلك، لم أكن أهتم، كان شغفي بالعلم هو المتحكم الأكبر بي، وكنت على استعدادٍ لفعل أي شيء كي أصل إلى مبتغاي".

عندما أنهت الإعدادية، عادت بشهادتها مرفقةً بشهادة تقدير، قلت لأبي: "البنات فرِحات وهن عائدات بشهادة واحدة، كيف أنا وقد عدت لك بشهادتين؟ أرجوك دعني أكمل دراستي الثانوية، لكنه رفض".

في تلك الفترة مرض والدها وسافر لتلقي العلاج، فمنحت لها جدتها الأمل بأن سمحت لها بإكمال دراستها، "كنتُ أطبخ في الليل على الحطب لكي أتفرغ للمدرسة" تضيف.

مرت السنوات سريعة ووصلت هدى للثانوية العامة، وببعض التحايل تمكنت من إكمال العام الدراسي، تتابع: "كان عامًا صعبًا، مررتُ بحالة اكتئاب وإحباط بسبب الظروف المحيطة، مرضت شقيقتي، ورافقتها أيامًا طويلة في المستشفى، ناهيك عن مهمة اعتنائي بالأغنام التي لم تتوقف حتى في أيام الامتحانات، المياه التي كانت تتسرب من "الزينقو" فوق رأسي وأنا أدرس، كل الظروف اجتمعت لتعيقني في تلك الأيام".

رفض والد هدى أن يدخلها الجامعة، وبقيت عامًا بأكمله في المنزل، حتى تمكنَتْ والدتها من أخذ موافقته وهو في آخر أيامه بالدنيا، ورغم أنها كثيرًا ما كانت تلوم والدها على محاصرته لها ورفضه تعليمها، إلا أنها اليوم تدرك أنه كان رهينةً لأفكارٍ وعادات وتقاليد متوارثة، لم يكن من السهل عليه التمرد عليها". 

بعد وفاة  الوالد والسند، لم تجد هدى سوى والدتها تساندها في تحقيق حلمها بدخول الجامعة، فباعت آخر قطعة ذهبيةٍ تملكها، لتدرس السنة الأولى، وتنجح طوال ثلاث سنوات لاحقة باستحقاق منحة جامعية كاملة.

مشوار الجامعة لم يخلُ من النجاحات بعد اختيارها خلال دراستها للعمل ضمن فريقٍ بحثيٍ تابع للأونروا، تقول: "كنتُ الأكفأ بشهادة الجميع، كان العمل يزيدني طاقة ولا يأخذ مني".

حصدت هدى بعد أربع سنوات دراسية ثمرة 16 عامًا من النضال والمقاومة من أجل تحقيق الذات، إلا أن  دخول معترك البحث عن فرصة للعمل أو حتى التطوع، كان الأصعب، تعقب بالقول: "كنت أظن أنني بمجرد تخرجي سأجد كل الأبواب مشرعة أمامي، لكن الحقيقة أنها جميعًا أُغلقت في وجهي حتى نال مني الإحباط وقررت التوقف عن البحث عن فرصة عمل أو تطوع".

لم تطل فترة الاحباط لتعاود هدى الكرّة مرةً أخرى، ولكن هذه المرة خارج نطاق جباليا، بتوسيع دائرة البحث لتشمل مدينة غزة، فيشاء القدر أن تحصل على فرصة تدريب مع مؤسسة دولية، سرعان ما آمنت بقدراتها وأصبحت من أحد كوادرها.

قبل ذلك تقدمت هدى بمشروع لتربية الأغنام، "وهو ما عدّته رسالة لعائلتها ولجميع أولياء الأمور، بأن الاستثمار  الحقيقي يكون بالأبناء، فهم رأس المال الذي لا ينضب".

طموح هدى يصل عنان السماء، وجل اهتمامها بعد عملها في مؤسسة (challenge  to change)  أن تتمكن من تغيير واقع الفتيات والنساء في القرية البدوية، باعتبارهن الأقل حظًا في التعليم.

تختم بالقول: "من تجربتي، أنا قادرة على فهم متطلباتهن واحتياجاتهن، ومن المهم أن أسعى لتعزيز مكانة المرأة في مجتمعي، وتمكينها في كافة المجالات المتاحة (..) أما بخصوصي، فسأستمر في طلب العلم ما حييت".

كاريكاتـــــير