غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
في ظل الحصار الذي طال أمده، وتفاقم معدلات البطالة، وغياب السيولة النقدية، لم يجد كثير من الفلسطينيين في قطاع غزة مفرًا من خلق فرصهم بأنفسهم. هناك، في الأزقة وعلى الأرصفة وداخل الأسواق الشعبية، تنبض حياة اقتصادية غير رسمية، لكنها حقيقية وفاعلة، ينخرط فيها الآلاف دون تراخيص أو تأمين، لكنهم يشكّلون عصبًا رئيسًا في بقاء المجتمع على قيد الحياة.
من قلب حي الزيتون، وتحديدًا في منطقة الصحابة، يجلس زكريا رشاد عاشور (26 عامًا) في بسطته الصغيرة. نازح فقد ثلاثة من إخوته في العدوان، ويعيش الآن مع والدته وإخوته الذين يعيلهم وحده. كان يعمل دهّانًا في السابق، لكن الحاجة دفعته إلى ابتكار مصدر دخل غير معتاد؛ تصليح وتنظيف الأوراق النقدية المهترئة.

فكرة مشروعه ولدت من واقع الأزمة: "الناس ما معها مصاري، والموجود منها أغلبه مهترئ"، يقول زكريا. جرّب أولًا على ورقة تالفة، فخرجت نظيفة، ومنذ تلك اللحظة، صار مشروعه اليومي. يتقاضى شيكلين عن كل ورقة يعيد إليها الحياة، ويستخدم مواد تنظيف من صُنعه الخاص، ما يجعل عمله أكثر استدامة.
"بصنع المواد ببيتي، وبشتغل بإيدي، وكل ورقة بتمر بتركيز ودقة.. الشغلة بدها بال رايق وطولة روح"، يقول بابتسامة متعبة. مشروعه هذا لا يطعم أسرته فقط، بل يمنح متنفسًا لصغار البائعين الذين تُرفض نقودهم في المحلات عادةً. رغم بساطة فكرته، يشعر زكريا بأنه يقدم خدمة اقتصادية واجتماعية لا يُستهان بها: "ما في سيولة، وكل ورقة برجّعها للتداول بتحرّك السوق شوي".
يشتري نور أنبوبة الغاز بـ105 شواكل، ويتلقى مقابل تعبئة القدّاحة 3 شواكل فقط. ورغم ضآلة الربح، يتمسّك بمشروعه ويأمل في توسعه.
زكريا ليس وحده. فاقتصاد الظل في غزة يضم آلاف القصص الشبيهة، حيث يستحدث السكان مهنًا لم توجد من قبل. في ورش الحدادة الصغيرة، وعلى بسطات الشوارع، وفي محلات تصليح الأدوات، وحتى في تجارة الملابس المستعملة، يتفنن الغزيون في البقاء.
في شارع الجلاء وسط مدينة غزة، يجلس نور الدين يحيى (23 عامًا) على طرف الرصيف، يدير بسطته الصغيرة لتعبئة القدّاحات. قد يبدو عمله هامشيًا، لكن بالنسبة له هو شريان حياة. خسر بيته في الحرب، ويعيش اليوم مع أسرته في خيمة. كان يعمل سابقًا في تبريد وتكييف السيارات، لكن العدوان شلّ كل شيء. يقول: "قررت أن أبدأ بأي شيء يقيني وأهلي ذل السؤال"، بينما يُمسك أنبوبة الغاز التي يستخدمها في عمله.
نور، المعيل الوحيد لعائلته المكوّنة من سبعة أفراد، بينهم والده المصاب، لا يتجاوز دخله اليومي 30 شيكلًا. يشتري أنبوبة الغاز بـ105 شواكل، ويتلقى مقابل تعبئة القدّاحة 3 شواكل فقط. ورغم ضآلة الربح، يتمسّك بمشروعه ويأمل في توسعته: "لو البلد تنفتح شوي، بتصير الفرص أحسن، وبقدر أوسع شغلي وأحسن وضعي."
العدوان لم يدمر فقط البنية التحتية، بل أنهك المنشآت الاقتصادية، وأغلق المصانع والمتاجر والشركات التي كانت تشكّل ركيزة سوق العمل في غزة. هذه الضربات المتلاحقة دفعت بالآلاف نحو اقتصاد الظل، كملاذ أخير يعوّض ما خسره القطاع رسميًا. توقفت مشاريع إنتاجية كاملة، وارتفعت معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة.
وعلى أطراف حيّ الدرج، يمارس فؤاد حمدان (63 عامًا)، المدرّس السابق لمادَّتي اللغة العربية والتربية الإسلامية، مهنة لم يكن يتخيّلها يومًا. بعد تقاعده، وجد نفسه غير قادر على سحب مستحقاته بسبب غياب السيولة والرسوم المرتفعة، فبدأ يبيع الحطب.

"ما في شي بيسد كل الاحتياجات، بس بنمشي حالنا"، يقول فؤاد، الذي يعيش مع زوجته وابنه الأصغر في منزل متواضع. يشتري الحطب من مناطق بعيدة ويعاني من تكلفة النقل المرتفعة، ما يضطره لرفع سعر البيع. الكيلو الواحد يباع بـ4 شواكل، رغم أنه يشتريه بـ3.5 شيكل. "الناس بتشوف السعر غالي، بس ما بيعرفوا قديش بشقى عشان أوصّل الكيلو"، يضيف وهو يرتّب الحطب بعناية.
ما يجمع بين زكريا، ونور، وفؤاد، ليس فقط الحاجة، بل الإصرار على البقاء. هم لا يملكون تراخيصًا، ولا مظلة قانونية لأعمالهم، ولا حسابات بنكية نشطة، لكنهم يملكون إصرارًا لا يلين على النجاة بأقل الإمكانيات. اقتصاد الظل في غزة ليس فقط بيعًا وشراءً خارج الدفاتر، بل هو انعكاس لروح الناس الذين يرفضون أن يكونوا مجرد أرقام في تقارير العجز، ويحوّلون الحاجة إلى حرفة، والفراغ إلى فرصة.
























