غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
في قلب الركام، وعلى أنقاض مدينة كانت تضج بالحياة، تولد مشاريع صغيرة تشبه فعل التحدي أكثر مما تشبه التجارة. في غزة المنكوبة بالحرب والحصار، لم تعد المطاعم مجرد أماكن لتناول الطعام، بل أصبحت رمزًا للتمسك بكرامة الحياة وإصرار الناس على البقاء.
وسط رماد الحياة هنا، يبقى الإصرار واحدًا: ألا يغادر الغزيون السوق، لأن الحفاظ على الاسم يعني الحفاظ على الرزق، وعلى الذاكرة، وعلى سنين من الجهد لا تُنسى.
يروي فادي جاد الله، أحد العاملين في مطعم شهير بمدينة غزة منذ أربع سنوات، قصة التحول القاسي قائلًا: "بعد أن قُصِف المطعم، قرّرَت الإدارة فتح فرع مؤقت في دير البلح رغم ضيق المكان وقلة الإمكانيات، حفاظًا على رزق الموظفين واسم المطعم".
"صرنا نرى المطاعم تتحول إلى بسطات في الشوارع، الصيدليات، ومحلات السوبرماركت، وحتى مطبخنا.. كلنا عملنا كمحاولة للتأقلم مع الواقع".
يصف فادي المشهد الاقتصادي بكلمات موجعة: "صرنا نرى المطاعم تتحول إلى بسطات في الشوارع، الصيدليات، ومحلات السوبرماركت، وحتى مطبخنا.. كلنا عملنا كمحاولة للتأقلم مع الواقع".
حتى في النزوح الأخير، استمر الإصرار ذاته. أخرجوا ما تبقى من المعدات البسيطة: "شادر، زينقو، وبعض الماكينات" إلى الجنوب، ومع أول هدنة أعادوا الأغراض إلى غزة للبدء من جديد، كمن يعيد بناء ذاكرة وطن صغيرة من تحت الغبار.
في زمن الحرب، أصبح الطهو على الحطب، والبحث عن بدائل للمواد المفقودة، تحديًا يوميًا. مع تقلّب السوق ونقص المواد الخام، كان لزامًا على العاملين ابتكار حلول جديدة للبقاء.
"كانت الأسعار مرتفعة للغاية، فحاولنا إيجاد البدائل حتى نستمر ولا نتوقف، كنا نبتكر شيئًا جديدًا كل يوم".
يخبرنا عاملون في بعض المطاعم أنهم اعتمدوا على المعلبات وما توفر من السوق: وجبات على صفائح الصاج بلحمة معلبة، ومرتديلا، و"كلزوني" بخضار محدودة، ومعجنات بالزعتر المصنع، وبيتزا بالتونة. أما الحلويات، فكانت تُعد بكميات قليلة باستخدام شوكولاتة يدوية وسكر مرتفع الثمن، فقط لأنهم أرادوا أن يمنحوا الناس بعضًا من نكهات كانوا يحبونها قبل الحرب.
ويحكي محمود سعيد، وهو ربّ أسرة وموظف في مطعم كبير في خانيونس دُمّر بالكامل، كيف قرر صاحب العمل نقل المطعم إلى منطقة المواصي بأبسط الإمكانيات: "كانت الأسعار مرتفعة للغاية، فحاولنا إيجاد البدائل حتى نستمر ولا نتوقف، كنا نبتكر شيئًا جديدًا كل يوم".
حتى مصادر الطاقة صارت عبئًا ثقيلًا؛ فالطهو يتم على الحطب، والمولدات تستهلك من 3 إلى 4 لترات من السولار في الساعة، وقد وصل سعر اللتر الواحد في معظم الأحيان إلى مئة شيكل. "ومع ذلك، بقيت الأسعار ضمن حدود المعقول: من 30 إلى 60 شيكلًا للوجبة، ومن 40 إلى 80 شيكلًا للحلويات، مع إقبال محدود، لأن هذه الأطعمة لم تعد متوفرة في البيوت" حسب سعيد.
"بدأنا بإعداد الشاورما مجددًا كما كان الأمر قبل الإبادة، لكن لا يوجد استقرار في فتح المعابر، ولا في أسعار المواد. نتمنى أن تُكتب لهذه الحرب نهاية حقيقية، وأن يعود عملنا كما كان".
وحين توقف القصف، عاد الأمل يسري في الأسواق. ظهرت اللحوم والدجاج من جديد، وبرغم غلاء أسعارها، عادت وجبات الشاورما إلى نكهتها الأولى. يضيف محمود: "بدأنا بإعداد الشاورما مجددًا كما كانت من قبل، لكن لا يوجد استقرار في دخول المواد من المعابر، ونحن نتمنى أن يعمّ الاستقرار في البلاد، وأن يعود عملنا كما كان قبل الحرب".
حتى المطاعم التي دُمّرت كليًا، لم تيأس. شيّد العاملون فروعًا بديلة من الحديد والشوادر وألواح الزينقو، وكان تأمين مواد البناء تحديًا بحد ذاته، إذ بلغ سعر الحجر الواحد بين 15 و20 شيكلًا.
وسط هذا الخراب، تحولت المطاعم إلى ما يشبه "واحات الأمان النفسية"، أماكن تقاوم الحزن وتمنح الناس شعورًا بالحياة.
وبحسب العديد من العاملين في مطاعم مختلفة قابلتهم "نوى"، فإن الزبائن انقسموا إلى نوعين: "زبائن الحنين والبقاء، وهم الذين يرتبطون بالمكان عاطفيًا ويأتون حتى لو لاحتساء فنجان قهوة واحد، محاولين استعادة ذاكرة الحياة قبل الحرب؛ وزبائن الإغاثة والدعم، وهم موظفو المؤسسات الذين أصبحوا زبائن دائمين بفضل استقرار دخلهم، أو لأن المطاعم نفسها باتت تطهو وجبات الإغاثة للمحتاجين".
"كانت غزة مليئة بالحياة، بالمطاعم والمقاهي التي تبعث فينا الأمل، صحيح أن الحرب دمّرت كل شيء، لكننا ما زلنا نحاول أن نجد شيئًا جميلًا نتمسك به".
إن إنفاق المال على وجبة سريعة أو مشروب ساخن قد يبدو "ترفًا بسيطًا"، لكنه في الحقيقة وسيلة للهروب من صدمة الحرب ومن الذاكرة الموجعة.
يقول فادي جاد الله: "كانت غزة مليئة بالحياة، بالمطاعم والمقاهي التي تبعث فينا الأمل، صحيح أن الحرب دمّرت كل شيء، لكننا ما زلنا نحاول أن نجد شيئًا جميلًا نتمسك به".
بين فوضى القصف وصقيع النزوح، هناك من لا يزال يجهّز عجينته ويشعل ناره ليقدّم الحياة بأبسط صورها.
فمطاعم غزة لم تعد مشاريع ربح فحسب، بل أصبحت مراكز صمود إنساني واقتصادي ونفسي، تصرّ على البقاء في وجه حربٍ تريد للناس أن ينسوا كيف تُعاش الحياة.
 
                 
            
 
                                                                    
 
                                            






















