غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
"أقف اليوم هنا. بين زميلاتي، أوثق هذا بصورةٍ للذكرى، وأهديها لذلك الجندي الذي حاول أن يمسح هذا الحلم من ذاكرتي، عندما أوهمني أنني سأموت أسيرة" تقول المعلمة أسماء شتات لـ"نوى" وتبتسم.
تتأمل أسماء وجوه طالباتها وزميلاتها المعلمات اللواتي تجمعن حولها بلهفةٍ ليلقوا عليها تحيةً، ويهنئوها بالحرية، وكأنهن لا يصدقن أنها هنا بينهن بعد عامٍ من الغياب خلف قضبان السجن، ووسط عتمة السجان.

بدت معلمة التربية الإسلامية منذ أكثر من عقد ونصف، وكأنها تعود إلى الحياة من جديد، رغم أن ذكريات ذلك العام لا تغيب. تعود كلما جلست وحدها إلى ذلك اليوم، عندما كانت تشير الساعة إلى الثانية بعد منتصف الليل، "عندما استيقظت على أصوات الطائرات تحلق بارتفاعات منخفضة. رغم انقطاع الكهرباء كانت قنابل الإنارة تضيء عتمة الليل في منطقة البركة بدير البلح، وكان أطفالي يبكون خوفًا" تخبرنا بصوتٍ يرتعش.
وتكمل: "مضت لحظات، بدأت بعدها الأرض تهتز تحت جنازير وعجلات الآليات العسكرية الثقيلة. شعرنا بها تقترب، وكانت كل المؤشرات تدل على أن أمرًا ما سيحدث في منطقة نزوحنا؛ لكنني لم أتخيل أن أكون وزوجي الهدف".
دوى صوت انفجار قريب أعقبه صراخ أطفالها، قبل أن تستوعب ما يحدث. كان باب قطعة الأرض التي نزحت إليها يُخلع من مكانه، بينما اقتحم العشرات من جنود الاحتلال المدججين بالسلاح المكان. أحاطوا بها وبزوجها، صوّبوا أسلحتهم نحو أطفالها الصغار، ثم قيّدوا يديها ويدي زوجها وسحلوهما إلى خارج قطعة الأرض.
تزيد: "لم يمنحوني فرصة حتى لتغطية شعري أو تبديل ملابسي، ولا حتى لحظة لتوديع أطفالي. كان آخر ما رأيته قبل أن يدفع بي الجنود إلى العربة العسكرية عيونهم الجاحظة من هول ما رأوه، وأيديهم المكبلة، وسط شتائم الجنود لهم".
داخل الزنزانة، لم يكن الألم في العتمة، ولا في الجدران الضيقة، بل في التهم التي ألصقها الاحتلال بأسماء: "العمل مع منظمة إرهابية"، متسائلةً: "كيف يمكن لمعلمة لم تحمل في حياتها سوى القلم والكتاب أن تكون إرهابية؟".

حين جاء موعد محاكمتها، رفض الاحتلال أن توكل محاميًا، كانت تقف أمام القاضي، وتحاول الدفاع عن نفسها، لكن في كل مرة تبدأ بالكلام، كانت المجندة المسؤولة عن تشغيل الميكروفون تقطع الصوت، فلا يصل صوتها للقاضي، وكأنها لا تقول شيئًا. كانت ترى في عيني القاضي لا مبالاةً متعمدة، وكأن الحكم قد صدر سلفًا، وما هذه المحاكمة إلا مسرحية هزلية بلا معنى.
لم يكن التحقيق أيضًا مجرد استجواب، بل كان محاولة لتدميرها نفسيًا -كما تشير- "فهم لم يهددوني بالسلاح والضرب فقط، بل بأغلى ما أملك، أطفالي الذين رُزقت بهم بعد سنوات طويلة. كانوا يعرضون أمامي صورهم، ويقولون لي: من تريدين أن نقتل أولًا؟، وفي كل مرة كانت تجيب بنفس الثبات: "اقتلوني أنا، واتركوا أطفالي".
استخدم الاحتلال التعذيب الجسدي والنفسي في محاولة لكسر أسماء، إلا أنها رغم كل المحاولات، لم تفقد أملها بأن هذا القيد سينكسر، وستشرق شمس الحرية يومًا ما.
عندما عانقت أطفالها لأول مرة بعد سنة من الحرمان، شعرَت وكأنها وُلدت من جديد. بكاؤهم على صدرها كان كفيلًا بمحو كل لحظات الألم في السجن.
جاء ذلك اليوم أخيرًا. بعد عامٍ من الاعتقال، سمعت أن هناك صفقة، وعندما بدأ الاحتلال بنقلها من سجن إلى آخر، فهمت أن حريتها قد اقتربت، ورغم التنغيص عليها وتأخير الإفراج عنها لمدة أسبوع، إلا أن فكرة إدراج اسمها للإفراج، وحده كان يبعث الطمأنينة في قلبها.
عندما عانقت أطفالها لأول مرة بعد سنة من الحرمان، شعرَت وكأنها وُلدت من جديد. بكاؤهم على صدرها كان كفيلًا بمحو كل لحظات الألم في السجن. "لكن لم يكن هذا هو المشهد الأخير في قصتي" تعقب.
بعد يومين فقط، وبينما كانت أسماء لا تزال تلملم شتات نفسها، عادت إلى مدرستها، إلى فصلها، إلى المكان الذي كانت تؤمن دائمًا أنه جبهة أخرى لمقاومة الاحتلال. وقفت أمام طالباتها، وقالت بصوت لم يفقد شيئًا من قوته: "لن نُهزم في العلم، ولن نسمح للاحتلال بأن يطمس رسالتنا. التعليم هو سلاحنا، وهو الطريق إلى تحريرنا".
تخبرنا بابتسامةٍ قطعتها دموع انهمرت بحرقة: "كانت تلك اللحظة أكثر من مجرد عودة إلى التدريس، كانت إعلانًا بأن الاحتلال لم ينجح في كسر صمودنا طالما نؤمن بأننا ندافع عن أرضنا، وأن العلم هو سلاحنا الحقيقي وفي وجه جهوده التجهيلية".
























