شبكة نوى، فلسطينيات
اليوم السبت 01 نوفمبر 2025م19:52 بتوقيت القدس

تبحث عنه منذ عام..

بسيارة إسعاف ضاع "فؤاد".. وتاه بين الوجوه قلب أمه!

29 ديسمبر 2024 - 11:57
الطفل فؤاد أبو القمصان (عام ونصف)
الطفل فؤاد أبو القمصان (عام ونصف)

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

"أفتش عن وجهه في وجوه كل الأطفال لعلي أعثر عليه"، بهذه الكلمات بدأت أروى منصور رواية حكايتها، وهي التي وجدت نفسها في مواجهة أصعب محنةٍ قد تمر بها أم: "فقدان طفلها وسط أهوال الحرب".

فؤاد أبو القمصان، الطفل الأول والوحيد لعائلته، مصدر الفرح والأمل الذي ملأ بيت والديه. المدلل الشقي، الذي يلفت أنظار الجميع بحركاته العفوية، اختفى فجأة، وبدون مقدمات.. غاب مصابًا في سيارة إسعاف، ولم يعُد.

 بدأت الحكاية في ليلة مرعبة من ليالي العدوان على غزة. جاء أمر قوات الاحتلال لسكان مدينة بيت لاهيا شمالي القطاع، بإخلاء منازلهم تحت تهديد القصف. لم يكن أمام العائلة سوى النجاة بأرواحهم، تاركين وراءهم كل ما بنوه.

حملت أروى صغيرها بين ذراعيها، بينما كان زوجها يحمل حقيبةً صغيرة بالكاد تحتوي على الضروريات. توجه الثلاثة نحو مخيم جباليا بحثًا عن مأوى مؤقت، وهناك، وجدوا منزلًا بسيطًا فارغًا من أهله فأووا إليه.

بعد أيام قليلة من وصولهم، استهدفت قوات الاحتلال المنزل، "وفي تلك اللحظة، كان فؤاد يقف عند باب المنزل مع والده. أصيب الأب بجروح بليغة، لكنه ظل واعيًا بما يكفي ليشعر بحركة طفله تحت الأنقاض" تحكي الأم.

وتضيف: "صرخ زوجي بألم مستغيثًا بمن حوله. اجتمع الجيران لانتشال العائلة من تحت الركام. وحينها استطاع أحدهم انتشال فؤاد وتسليمه إلى مسعفٍ كان يحاول إنقاذ المصابين ونقلهم إلى المستشفى".

غادرت سيارة الإسعاف بسرعة وسط الدمار؛ لإنقاذ الطفل دون أن يعرف أحدٌ وجهتها. لم تكن أروى وزوجها قادرَين على متابعة السيارة أو حتى طرح الأسئلة بسبب إصابتهما، ومن جهة أخرى بسبب الحصار الذي فرضه الاحتلال على معظم مناطق غزة، والخطر الذي كان يترصد كل من يتحرك.

نُقلت أروى وزوجها إلى المستشفى لتلقي العلاج، وكان وجع القلب على فؤاد كبيرًا، وهو البعيد عنهما، يتلقى علاجه وحيدًا. "كان ألمي يفوق الوصف.. وكلما سألتُ عنه أحد، أجابني: سنبحث عنه عندما يُرفع الحصار" تقول.

مرت الأيام ثقيلة كأنها دهور، تصف أروى تلك اللحظات بالقول: "كل دقيقة كانت تمزقني، وأنا أتخيله وحيدًا دوني".

كانت أروى تنظر في وجوه الأطفال المصابين، وتأمل أن ترى ملامح فؤاد بينهم. لكن كل طفل يشبهه كان مجرد نافذة للأمل تُغلق سريعًا.

مع انسحاب قوات الاحتلال الجزئي من مخيم جباليا، بدأت أروى وزوجها رحلة البحث المضنية عن صغيرهما. انطلقت الأم المكلومة من مستشفى إلى أخرى في شمالي القطاع، تسأل عن طفلها ذي القميص الأزرق والسروال الرمادي، ابن العام والنصف. إنه بالكاد يستطيع نطق اسمه، لكن الإجابات جاءت موجعة ومتكررة: "لا توجد لدينا معلومات".

كانت المستشفيات -وما زالت- تعيش ظروفًا مأساوية. انقطاع التيار الكهربائي المستمر والفوضى الناتجة عن كثافة القصف، جعلا حفظ أرشيف المرضى مستحيلًا. لم تكن هناك سجلات دقيقة عن المصابين.

كانت أروى تواجه عائقًا جديدًا في كل مكان. رغم ذلك، كانت تنظر في وجوه الأطفال المصابين، وتأمل أن ترى ملامح فؤاد بينهم. لكن كل طفل يشبهه كان مجرد نافذة للأمل تُغلق سريعًا.

لجأت العائلة إلى المؤسسات الدولية، آملين أن يكون فؤاد قد نزح مع عائلة أخرى. لكن الردود كانت دائمًا باردة وغير مبشرة: "لا توجد لدينا معلومات".

لم تكتفِ أروى وزوجها بالبحث في الشمال فقط. توسعت دائرة البحث لتشمل جنوبي القطاع، حيث لجأت العائلة إلى المؤسسات الدولية، آملين أن يكون فؤاد قد نزح مع عائلة أخرى. لكن الردود كانت دائمًا باردة وغير مبشرة: "لا توجد لدينا معلومات".

مر أكثر من عام على فقدانه، لكن أروى لم تتوقف عن البحث. الأمل الذي يزداد هشاشة يومًا بعد يوم، ما زال هو الشيء الوحيد الذي يبقيها مستيقظة. تقول: "كلما رأيت طفلًا صغيرًا، أشعر أنه هو. أركض نحوه، ثم أكتشف أنه ليس طفلي. ومع ذلك، أستمر في البحث."

حتى في الليل، لم تكن الأحلام رحيمة بها. في كل مرة، يظهر فؤاد في أحلامها يركض نحوها، يمد يديه الصغيرتين وكأنه يطلب حضنها. تحاول أن تحتضنه، لكنه دائمًا يتلاشى قبل أن تلمسه. كانت تلك الأحلام تطاردها بالقدر ذاته الذي كانت تمنحها فيه جرعة صغيرة من الأمل.

"لن أتوقف عن البحث، حتى أجده. ربما يظهر في يوم مزدحم، ربما أتعثر به في مستشفى آخر، ربما يناديني بصوته الصغير. سأظل أبحث، حتى أضمه من جديد" تقول أروى.

قصة فؤاد واحدة من آلاف القصص التي خلفتها الحرب في غزة، حيث أدى الحصار المحكم وفصل المناطق عن بعضها إلى تعقيد حياة الناس وزيادة معاناتهم. وسط الفوضى وكثرة المصابين والشهداء، تضاءلت فرص العثور على المفقودين، وتحولت كل معلومة إلى أمل صعب المنال.

كاريكاتـــــير