غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
عن ماذا نكتب؟ وما جدوى الكتابة؟ ونحن نُقتل منذ أكثر من عام على مدار الساعة بكل الطرق.. بأبشع الطرق!
عن ماذا نكتب؟ وما عشناه على مدار 400 عامٍ تحت القصف وبين الركام لم يره إنسانٌ في أبشع كوابيسه حتى، ولم يتخيل عقلٌ أنه قد يحدث يومًا ما، في بلادٍ جيرانها من أبناء نفس اللغة والقيم والدين.
لمن نكتب؟ والعالم كله يتابع مسلسل الموت الذي نعيشه بتفاصيله المرعبة لحظةً لحظة منذ 415 يومًا، أمام كوب شايٍ ساخنٍ لم نتذوّقه نحن منذ أشهر.
ما الجدوى مما نكتب ونقول، وكبيرُ ما يمكن أن يعبّر به أي إنسانٍ يقرأ.. يسمع.. يتفرّج، هزّة رأسٍ وحوقلة! نُقتل والكل يسمع ويرى، حتى بتنا نحن نتفرج على بعضنا البعض دون أن نحرّك ساكنًا؛ لأننا ببساطة لا نملك أي خيار، أو أي قدرة على المساعدة.
الأدهى أننا انشغلنا بمحاولة النجاة والبحث عن سبل الحياة، في الوقت الذي لا يبعد فيه الموت عن أيٍ منا قيد أنملة، وما هو إلا القدر الذي يبقينا حتى اللحظة في عداد الأحياء.
في هذا القطاع المعذب، نحن جنازات مؤجلة إلى حين ليس ببعيد، فرائحة الموت تنتشر في كل مكان ولم تترك بيتًا إلا وزارته بشكلٍ ما. في غزة ليس شرطًا أن تموت بقصف من طائرات الأباتشي أو F36 أو F16، أو حتى مُسيّرات كواد كابتر، هناك آلاف الطرق التي يصل فيها الموت إلينا، وهو أقرب من حبل الوريد.
نحن نمشي إلى نهايتنا المحتومة وإن كنا نتنفس، ولا أظن أن أيًا منا على قيد الحياة حقًا. في بعض الأحيان أظن أننا تحولنا إلى ماكنات فقط، تبحث عن طرق لتأمين المأكل والمشرب وخيمةً لا يتسرب من سقفها ماء المطر.
اعتدنا الاصطفاف في طوابير الذل. هنا طابور للمياه وطابور للحمام، وآخر للخبز وثالث لملء آنية ببعض الفاصولياء أو المعكرونة من تكية الحارة أو المخيم. وهناك في المستشفيات والعيادات الحكومية طوابير أمام غرف الأطباء وأخرى أمام الصيدلية لصرف ما يتوفر من الدواء، وثالثة لفحص عينات الدم.
لكل واحد من الآلاف المرتصّة هنا وهناك مئة قصة وقصة، تصلح لأن يكتب عنها، ولكن ما الفائدة؟ وهل سيتغير الواقع؟
أمام شبح المجاعة الجاثم فوق صدر القطاع من شماله إلى جنوبه، لا بد أن أخبركم أنني لم أعرف طعم الجوع يومًا، وأذكر جيدًا كيف كان أطفالي يمتعضون أمام أصنافٍ من الأطعمة لا يحبونها -نشتهيها الآن..
كان زوجي دائمًا يحدثهم حينما يمطّون شفاههم أمام الأطباق الممتلئة عن المجاعات في الصومال ودول العالم التي نهشتها الحروب. وكنت حينها أتساءل متهكمة: هل يمكن فعلًا أن تحدث مجاعة؟ وكيف يمكن أن يجوع الإنسان أصلًا؟
نحن منذ ما يزيد على عامٍ نباد هكذا بلا سبب.. بلا قرار ولا خيار، بلا نتيجة ولا إنجاز. نبتلع علقم الحرب، ونحاول الحياة في مدن من الركام والخيام! عن ماذا نكتب
هل نكتب عن تشتت العائلات؟ أم عن مسح الآلاف منها من السجل المدني؟ عن القتل الجماعي أم عن جثث شهدائنا التي أصبحت طعامًا للكلاب الضالة وقطط الشوارع؟ أم عمن قضوا تحت الأنقاض بعد محاولات عدة لأن يبقوا على قيد الحياة؟ ماتوا وحدهم يملأ أفواههم التراب والركام والغبار، خائفون في عتمةٍ سبقت عتمة القبر!
أي وجعٍ هذا؟ وكيف يمكن أن نكتب عن هذا الألم وهذه القسوة من العالم الذي يدّعي أنه متحضر وإنساني؟!
هل نكتب عن التعليم في زمن المقتلة؟! للحظةٍ أشعر أننا مجانين، كيف نبحث عن مواصلة التعليم لأبنائنا ونحن ننتظر الموت في أي لحظة؟ كيف أحاول أن أبقي على هاتفي النقال متصلًا بالإنترنت لأطول فترة ممكنة؟ أن أحافظ عليه مشحونًا ليتمكنوا من متابعة دروس تطبيق "تيمز" الوزاري، تحت طنين الزنانة، وهدير طائرات القتل والتدمير.
يأخذون دروسهم بينما الخوف يقتل قلوبهم، والجوع ينهش أحشائهم.. هل هو تناقض؟ أم هو شكل من أشكال محاولات النجاة، وترسيخ مبدأ "المقاومة" أينما كنا وكيفما كنا وبأي حالٍ كنّا عليه..
هل نكتب عن بيوتنا التي حُرمنا منها؟ عن الحارة والشارع والأرض والشجرة التي كانت تطل عليها شبابيك الغرفة.. أم نكتب عن رحلات النزوح المستمرة، وما تحمله من وجع في كل مرة! أول مرة نزحت فيها كانت الأشد قسوةً على قلبي، بعد أيام من اندلاع الحرب: شاهدتُ لأول مرةٍ في حياتي آلاف الناس هائمون لا يعرفون إلى أين تأخذهم أقدامهم، وداخل كلٍ منهم سؤال ملح: هل سنعود إلى بيتنا يومًا؟
بكيت يومها كثيرًا في وقتٍ شعرتُ فيه أنني عاجزة عن حماية أطفالي أو حتى بث الأمان في قلوبهم. كانت من المرات القليلة التي بكيت فيها خلال هذه المقتلة، فأن تكوني مسؤولة عن عائلة وأطفال، هذا وحده يحرمك من الانصياع لكل مشاعر الخوف والقلق والتوتر.. تبقينها بعيدةً جدًا على الأقل، عن عيونهم المتّقدة بالخوف والترقب.
هل نكتب عن أسرانا في سجون الاحتلال؟ لا سيما أولئك الذين اعتُقلوا وتم إخفائهم قسرًا بعد السابع من أكتوبر، وبقوا في حكم المفقودين لشهور ومنهم من لم يعرف مصيره حتى اليوم!
نكتب عن المعتقلات سيئة الصيت والسمعة؟ وما يخرج من تقارير توضح بشاعة ما يرتكب من جرائم بحق الأسرى وصلت حد الاغتصاب؟
لم نتوقف لحظةً نحن الصحافيون عن نقل الحقيقة بالصوت والصورة.. لكننا اليوم، وبعد 415 يومًا تحت النار نسأل أنفسنا ونحن الذين خارت قوانا تحت ضرباتٍ في العمق، طالت قلوبنا وبيوتنا وتفاصيل حياتنا كلها: عن ماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ وماذا سينفع إن كتبنا؟ لا نعرف، لكننا حتمًا سنواصل، حتى نصل إلى الإجابة.