شبكة نوى، فلسطينيات
اليوم السبت 01 نوفمبر 2025م19:52 بتوقيت القدس

نزح برفقة إخوته وبقي أبواه في الشمال..

الشوق يقود طفلًا إلى "نتساريم": "أمي هناك"

31 اكتوبر 2024 - 12:20

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

"في كل مرة كنتُ أحاول فيها العودة لحضن أمي يطلق الجنود الرصاص باتجاهي، فأعود بحسرتي إلى الخيمة اللعينة" يهمس محمد محسن (13 عامًا) بصوتٍ يملأه الأسى، ويتمتم: "أشتاق لأمي. لبيتي ولألعابي".

كانت ليلة لا تُنسى، عندما اجتمع الوالدان بأبنائهما في المنزل وسط أصوات القصف العنيفة، التي أحالت السماء جحيمًا من النيران. وجد الأب والأم نفسيهما في مواجهة قرارٍ قاسٍ لم يتوقعا يومًا أن يطرحاه: "من يُفضل النزوح إلى الجنوب بحثًا عن الأمان النسبي؟ ومن يختار الصمود معنا والبقاء؟".

وسط صخب الصواريخ، كان القرار أقسى من أن يُتخذ بسهولة، لكن الضرورة أجبرته على الحسم. وقف الأخ الأكبر، وفي عينيه نظرة تخلط بين القوة والحزن. اتخذ قراره بحمل مسؤولية إخوته محمد ورشا وتسنيم، ليقودهم إلى جنوبي "وادي غزة"، حيث زعم الاحتلال أن "الأمان" هناك ينتظرهم.

حمل كل واحد منهم حقيبة صغيرة على ظهره، وضع فيها ملابس تكفي ليومين فقط، ظنًا بأن رحلة النزوح لن تمتد لأكثر من أسبوع، سيعودون بعده إلى البيت وحضن الأحبة.

ودّعتهم العائلة بحرقة، وبقيت الأم تراقبهم من نافذة المنزل، وعيناها معلقتان بهم حتى تلاشت صورهم في الأفق. انطلقوا في رحلة طويلة سيرًا على الأقدام! ثلاث ساعات من المسير، حتى وصلوا إلى حاجز "نيتساريم"، تاركين خلفهم بيتهم وذكرياتهم وكل من أحبّوهم.

لم يكن محمد يدرك أن هذه الرحلة ستأخذه بعيدًا عن أمه وأبيه، وأنه سيواجه عامًا أصعب من قدرة عقله الصغير على التخيل.

كانت قلوبهم معلقة بمن تركوهم خلفهم، خاصة محمد، الطفل الذي لم يتجاوز الثالثة عشرة، الذي كان متعلقًا بوالدته ووالده. لم يكن يدرك أن هذه الرحلة ستأخذه بعيدًا عنهما، وأنه سيواجه عامًا أصعب من قدرة عقله الصغير على التخيل.

بعد رحلةٍ شاقة، وصل الإخوة إلى مدينة خانيونس واستقرّوا مؤقتًا في مدرسةٍ تحولت من مكان للتعليم إلى ملجأ مكتظ يفتقر لأبسط مقومات الحياة، لم يكن أمامهم سوى التكيف مع هذا الواقع الجديد، ولكن سرعان ما جاءت تعليمات جديدة تفرض عليهم النزوح مجددًا، ليجدوا أنفسهم بلا مأوى مرة أخرى.

ومع انعدام الإمكانيات وشحّ المال، لم يكن أمامهم سوى الاستمرار في "الرحيل" حتى وصلوا إلى مخيم النصيرات، فاحتضنت إحدى العائلات في خيمتها محمد ورشا وتسنيم، بينما احتضنت عائلة أخرى أخوهم الأكبر وائل، فكُتب على نصف العائلة أن تتجزأ.

مع مرور الأيام، بدأت آثار النزوح القاسية تظهر بوضوح على محمد. بات يعاني من أوضاع نفسية صعبة، إذ ظهرت عليه نوبات من العنف والغضب لأول مرة، عندما طال بعده عن أهله، وفقد شعوره بالأمان، إلى جانب مسؤوليته المبكرة في توفير قوت يومي لشقيقاته. "كل هذا جعل منه طفلًا يحمل هموم الكبار، حيث اضطر للعمل في أي فرصة تتاح له، متحملًا مشاق لا يحتملها عمره الصغير" يقول شقيقه الأكبر، مضيفًا: "وهذا أثر على صحته النفسية، فأصبح يعاني من قلق دائم وعصبية متزايدة، فيما تحول يومه إلى صراع مستمر مع قسوة الحياة التي فرضت عليه قبل أوانها".

حاول محمد العودة إلى حضن والديه أكثر من أربع مرات. في كل مرة، كان يستجمع شجاعته، متسلحًا برغبته في اللقاء، ويشق طريقه نحو حاجز "نيتساريم"، لكن في كل مرة كان يصل فيها إلى هناك، كان يقابله الجنود بإطلاق النار، فيضطر إلى الهروب والعودة إلى خيمته، وعيناه تملأهما الحسرة وخيبة الأمل.

كان يعود وهو يحمل في قلبه خيبة جديدة، تزيد لوعة الاشتياق. في إحدى الليالي، جلس محمد مع أخواته تحت ضوء القمر الخافت، وتحدث بصوت مثقل بالحنين، "أريد فقط أن أرى أمي وأبي، أريد أن أحتضنهم ولو لمرة واحدة". بكت أخته رشا، وحاولت أن تمسح دموعه وتواسيه، بينما كانت تسنيم تحاول أن تخفف عنه، قائلةً: "سنلتقي بهم. لن نبقى هنا إلى الأبد"، لكن كلماتهم لم تكن كافية لملء ذلك الفراغ العميق الذي تركه الفراق في قلب محمد.

مرت الليالي وما زال محمد يحدق في السماء، مؤمنًا أن لقاءً قادمًا سيجمع نصف عائلته هنا بنصفها الآخر هناك، وأن هذا الحلم -رغم كل الظروف- سيظل نقطة الضوء التي تقوده وأخوته إلى حضن العائلة.

كاريكاتـــــير