شبكة نوى، فلسطينيات
اليوم السبت 01 نوفمبر 2025م19:53 بتوقيت القدس

نَصٌ في تاريخ "النزوح الكبير".. كي لا ننسى!

14 اكتوبر 2024 - 12:07

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

يفقد الإنسان جزءًا من ذاته عندها يفقد بيته، لكن ماذا لو كان هذا الفقد "خيارًا لا ثاني له"؟ ماذا لو اضطر إلى ترك كل شيء خلفه للسير  في طريقٍ مجهولة بحثًا عن أمانٍ مفقود؟

بعد إعلان "إسرائيل" حربها على قطاع غزة، في السابع من أكتوبر/ تشرين أول للعام 2023م، ارتكب الاحتلال مجازر مروعة في شمالي قطاع غزة. أمطرت السماء حممًا من الصواريخ، واهتزت الأرض من وقع القنابل التي لم تفرق بين بيت ومسجد أو مستشفى.

طُوقت الأحياء بالأحزمة النارية، وحوصر كل من حاول البقاء. ومع كل ضربةٍ جوية، كانت تتساقط بيوت المدنيين على رؤوس ساكنيها دون سابق إنذار.

أمام هذا الواقع المرير، اضطر مئات الآلاف من سكان الشمال، في الثالث عشر من تشرين أول/ أكتوبر إلى النزوح قسرًا لما وراء وادي غزة، حيث المناطق التي زعم الاحتلال أنها ستكون آمنة، فلم يجدوا إلا الموت يلاحقهم مع كل محطة نزوحٍ جديدة، تقررها أوامر "الإخلاء".

هكذا بدأ إخلاء المواطنين من شمالي القطاع إلى جنوبه. رحلةٌ شاقةٌ مثقلة بأسئلة موجعة لا إجابة لها. لم يكن النزوح مجرد انتقال جسدي من مكان لآخر، فمع كل خطوة كانت تبتعد بهم عن بيوتهم تنزف أرواحهم، وكأنهم يتركون خلفهم نبض حياتهم في كل حجرٍ ودّعوه مرغمين نحو المجهول.

عبر ممر يشبه المصيدة، سار النازحون إلى الجنوب مشيًا على الأقدام لساعات طويلة، يحملون على أكتافهم حقائب صغيرة يتمنون لو كان بوسعهم أن يضعوا بداخلها بيوتهم. يسيرون في طريق على جانبيها الكثير من الجثث، تحيط بها القناصة، وكاميرات المراقبة، والدبابات التي تطلق الرصاص عليهم بين الفينة والأخرى.

آلاء المشهراوي، الأم لثلاثة أطفال، والحامل بشهرها الثامن، اضطرت للنزوح "بعد خروج المستشفيات في شمالي القطاع عن الخدمة، وصعوبة التنقل". اضطرت للنزوح من أجل متابعة الحمل والولادة، وسارت برفقة زوجها وأطفالها مسافات طويلة باتجاه الجنوب، وعندما اقتربت من الحاجز نادى الجندي بمكبر الصوت: "الراجل اللي معه ثلاث أطفال وسيدة، ولابس بلوزة بيضا. إرفع إيديك وتعال. وخلي باقي العيلة تكمل طريقها للجنوب".

منذ ذلك الوقت لم تعلم عن زوجها أي شيء. تسأل نفسها في كل لحظة "هل قتلوه؟"، أم أنه معتقل؟ إن كان معتقلًا فكيف حاله؟ طرقَت كل أبواب المؤسسات الدولية للسؤال عنه.. ولا إجابة.

لم يجد النازحون أمامهم لما وصلوا إلى الجنوب، سوى خيام متناثرة عل مساحات من الأراضي القاحلة. لم يكن هناك أي مظهر من مظاهر الاستقرار، كيف يمكن لإنسان عاش طيلة حياته في بيت واسع، له سقف وجدران، أن يسكن في خيام مكونة من أغطية رقيقة بالكاد تحميه حرارة النهار أو برودة الليل؟

لم تكن الظروف المعيشية هي الجانب الوحيد من المعاناة، بل كان الأطفال هم الفئة الأكثر تأثرًا. هؤلاء الذين اعتادوا اللعب في أزقة أحيائهم ومدارسهم، وجدوا أنفسهم فجأة بلا مكان آمن يلعبون فيه. أصبح اللعب في التراب بين الخيام لعبتهم الجديدة، يحاولون التكيف مع الواقع لكن عيونهم تحمل الكثير من التساؤلات: "هل سنعود إلى بيوتنا؟ هل سنرى أصدقاءنا مرة أخرى؟” لكن الإجابات مجهولة، وكل يوم يمر على نفس الحال، يزيد شعورهم بالغربة عن الحياة التي كانوا يعرفونها.

بينما كانت معاناتهم في الحصول على لقمة الغذاء وشربة الدواء تتعاظم، كانت قلوبهم تنزف ألمًا أعمق بفقدان المأوى. أهالي غزة الذين كانوا يومًا أصحاب أراضٍ ومنازل، يعيشون اليوم في خيامٍ أثقلها الحزن والغياب، ينتظرون عونًا لا يسد جوع الروح.

رغم كل ما مزقهم من ألم على مدارعامٍ من حرب الإبادة، لم تتلاشَ كلماتهم: “سنعود مهما طال الزمن” كأنه وعد عقدوه مع بيوتهم قبل مغادرتها قسرًا.

في الليل، عندما يهدأ كل شيء، تبدء همسات العائلات التي تسترجع ذكرياتها. تحكي عن بيوتها التي تركتها خلفها، عن الأشجار التي زرعتها، وعن اللمة الكبيرة وفرح العيد. وبينما يحاول الاحتلال محو هويتهم، يتمسك أهل غزة بأمل العودة أكثر فأكثر.

يدركون أن الخيام ليست إلا محطة عابرة في رحلة العودة، مهما امتدت أيامها أو قست لياليها، يرون في كل خطوة نزوح بذرة أملٍ في العودة، وفي كل ليلة قضوها بعيدًا عن أرضهم وعدًا خفيًا يربطهم بجذورهم، بأنهم سيعودون لا محالة إلى البيوت التي تنتظرهم، والأرض التي لا تزال تفتقدهم.

كاريكاتـــــير