شبكة نوى، فلسطينيات
اليوم السبت 01 نوفمبر 2025م19:54 بتوقيت القدس

عبد الله العمودي (28 عامًا)

أصغر حاصل على الدكتوراه بغزة.. شهيد!

13 اكتوبر 2024 - 10:03

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

"في أسوء كابوس لم أتخيل فقده. كيف أتقبل غيابه وهو رفيق الدرب وأنيس الروح؟" تتساءل زوجة الشهيد عبد الله العمودي بحرقة.

تقلّب السيدة المكلومة شهادات زوجها العلمية التي أفنى عمره في تجميعها، ثم تحتضن طفليها منه، وتكمل: "لن أقبل أن يكونا أقل من والدهما. أريدهما مثله تمامًا، علمًا وخُلُقًا".

في خيمة جثامين الشهداء بمستشفى شهداء الأقصى وسط قطاع غزة، احتضنت "رواء" جثمان زوجها، أصغر حاصل على درجة الدكتوراه في قطاع غزة للمرة الأخيرة. ودّعته وبكت كأن الفرح لم يزر قلبها يومًا قط.

كانت درجة الدكتوراة حلمًا يراود عبد الله لسنواتٍ طوال، وحين تحقق وهو ابن (28 عامًا) ، جاءت طائرات الاحتلال واقتلعت روحه. تركتهُ جثةً هامدةً على قارعة طريق.

في تفاصيل ما جرى، خرج عبد الله من منزل والد زوجته الذي نزح إليه في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة؛ ليجمع الحطب من أرضٍ مجاورة. مشى خطوات معدودة قبل أن يهبط من السماء صاروخٌ، يصيب المنزل الذي كان يمشي بجانبه.

اهتز البيت لشدة الانفجار، وتطايرت حجارته نحو بيت والد زوجته. في حينها انهار جزء من المبنى على جسد عبد الله فسقط على الأرض وفوقه كومة حجارة.

 تعالى صراخ الجيران "عبد الله.. عبد الله قوم إنت عايش"، سمعت زوجته اسمه، وهنا توقف الزمن. جلست على أرضية المنزل جسد بلا روح، لا تعي ما يدور حولها.

أزال الشُبّان الحجارة عن جسده، ولم تتوفر أي سيارة لنقله إلى أقرب مستشفى. حمله مجموعة شبان إلى الطريق الرئيس، ولما وصل الإسعاف، أجل نقله لخطورة حالته، وفضل نقل الحالات الممكن إنقاذها! بقي عبد الله ممدًا على قارعة الطريق فاقدًا للوعي ينزف من رأسه لأكثر من 20 دقيقة، وكل من هم حوله يقفون حوله عاجزين عن فعل شيء.

"كنا نراقب الدماء وهي تنساب من جسده، وكأنها تأخذ معها آخر خيوط الأمل. بات الزمن عدوًا لدودًا، كل ثانية تمر كانت تأخذ شيئًا من روحه أمام أعيننا".

تقول: "كنا نراقب الدماء وهي تنساب من جسده، وكأنها تأخذ معها آخر خيوط الأمل. بات الزمن عدوًا لدودًا، كل ثانية تمر كانت تأخذ شيئًا من روحه أمام أعيننا، بينما أيدينا مكبلة، لا سيارات ولا وقود، ولا وسيلة لإنقاذه إلا انتظار عودة الإسعاف".

في تلك اللحظة، حضرت سيارة مدنية سارع الشبان لإيقافها، وأخذوا فيها عبد الله وثلاث إصابات أخرى، إلى مستشفى العودة في النصيرات، ومن هناك تم تحويله إلى مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح لخطورة حالته. ووسط هذا كله، كان الحال وسط أفراد عائلته مُرًا، لحظات بين الواقع والكابوس. كانت أصوات الدعاء تختلط بصيحات الفقد، بين مناجاة صامتة وصراخ لا يمكن كتمه؛ فجأة كُسر الأمل بقدوم الخبر: "عبد الله استشهد".  

امتلأ البيت بصرخات ممزوجة بالذهول في لحظة! كأن الكلمات لا تستطيع أن تخترق واقعهم الجديد، كان وقع كلمة "استشهد" أثقل من أن يُحتمل. نظرت زوجته حولها بعيون متسعة، وكأنها ترفض تصديق ما سمعته. سقطت دموعها قبل أن يستوعب عقلها الحقيقة، انحنت وكأن الحياة تهوي بها إلى الأرض، واحتضنت طفليها إيلياء وعمر بقوة، في محاولةٍ لحمايتهم من ألم الفقد -على حد تعبيرها.

لم تكن ظروف الحصار والحروب المتتالية تقف عائقًا أمام طموح عبد الله، فقد حصل على شهادة البكالوريوس في الشريعة الإسلامية ، وتابع مسيرته الأكاديمية لينال درجة الماجستير، ثم تميز كواحد من أصغر الحاصلين على درجة الدكتوراه في الحديث الشريف وعلومه داخل قطاع غزة.

"كانت درجة الدكتوراه بمثابة تحقيق لحلمه الأكاديمي، لكن القدر لم يمهله ليتمتع بهذا الإنجاز طويلًا، فقد استشهد بعد ستة أشهر فقط من حصوله عليها" تحكي رواء.

لحظة استشهاده كانت نهاية رحلة مليئة بالأحلام المشتركة، عاش عبد الله وزوجته يتطلعان لمستقبلٍ يعم فيه السلام وتتحقق فيه أحلامهما بتربية طفليهما في أمان واستقرار، لكن الفراق جاء قبل الأوان. ترك طفليه الصغيرين ليكبرا في غيابه. إيلياء وعمر، اللذان بالكاد يدركان معنى الفراق، سيكبران وهما يفتقدان والدهما الذي كان يسعى لتأمين مستقبلهما.

اليوم تعيش عائلة عبد الله بين ألم الفراق وذكرى حياة شابٍ مليء بالطموح والإصرار. زوجته التي تصارع الألم تحاول تربية طفليها بروح الصبر والإيمان، متحملة وجع الغياب وقسوة الواقع. أما طفلاه الصغيران، فسيكبران على قصص والدهما الشهيد، الذي لم يكن فقط أبًا، بل كان رمزًا للعلم والإيمان والتفاني في خدمة أسرته ومجتمعه.

قصة عبد الله العمودي، تُروى ليعلم العالم كله كيف يقاوم الشعب الفلسطيني كل الصعاب، ويواصل العمل من أجل العلم والحياة رغم الحرب والحصار.  اسمه يضاف إلى قائمة طويلة من الشهداء أصحاب الشهادات العليا، الذين ضحّوا بحياتهم في سبيل كرامة وطنهم، لكنهم سيبقوا في الذاكرة رمزًا للطموح الذي لا ينكسر.

كاريكاتـــــير