غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
قبل عدة سنوات، ظهر مقطع فيديو لمذيع يسأل طفلًا بغزة، يبدو على حال عائلته الفقر، "متى آخر مرة أكلتو فيها لحمة؟"، ليجيبه الطفل: "شو يعني لحمة؟".
هذا المشهد أثار سخط المواطنين، الذين استهجنوا "المبالغة الكبيرة" في طرح الحلقة، حيث يعرف سكان قطاع غزة جيدًا أن لا بيت يمكن أن يخلو من اللحم، الأحمر أو الأبيض على مدار العام، لا سيما في الأعياد، وخلال توزيع الرحمات عن الأموات، ولحوم العقائق للمواليد الجدد.
"كيف لا يعرف طفلٌ ما هو اللحم إذن؟" تساءل المواطنون آنذاك، لكن من يتذكر المقطع اليوم، وإن ثارت ثائرته على المذيع، بات يدرك أن طفلًا عمره عامين وأكثر، يعيش اليوم في مدينة غزة أو شمالها، يمكن أن يسأل هذا السؤال ببساطة، وعفوية وصدق، وهو الذي لم يعِ إلا على المعلبات، ومرق الدجاج "المُصنّع".
في ظل حرب التجويع الممنهجة التي تمارسها "إسرائيل"، يلخص هذا التساؤل ما يعانيه السكان، الذين أصبحوا ضحايا للجوع والعطش ضمن حرب الإبادة التي تستهدف كل ما هو فلسطيني في قطاع غزة.
قبل أيام، وبعد أكثر من 10 أشهر من الحرب، دخلت عدة شاحنات محملة بالدجاج المجمد، الذي وصل لشريحة محددة من المواطنين.
وتداول البعض عددًا من مقاطع الفيديو والمنشورات، التي تعبر عن صدمة الأطفال الذين حصلت عائلاتهم على دجاجة بعد أشهرٍ طويلةٍ من الحرمان.
"أكلتُ ثُمن دجاجة بعد 10 أشهر من الحرمان. نعم يا سادة، أنعم الله علينا بدجاجة لها جناحين، وفخذين، وصدر جميل. نعم دجاجة لذيذة بلحمها وشحمها وعظمها" تقول الفنانة التشكيلية محاسن الخطيب، وتزيد: "لن أخبركم عن ردة فعلي حينما رأيتها، لقد رأيت دجاجةً أخيرًا بعد أن كدت أن أنسى شكلها وطعمها".
ودار حوارٌ عبر مقطع فيديو بين محاسن وشقيقها حول ما يمكن أن تصنع بهذه الدجاجة الغالية، التي زارت المنزل بعد طول عناء: "هل نقوم بسلقها؟ أم شيِّها؟ تقطيعها أم حشيها؟ ثم انطلقت ضحكات من السخرية السوداء، لما وصل إليه حال الناس شمال القطاع".
وإذا كانت عائلة محاسن من العائلات المحظوظة بالدجاجة، فإن آلاف العائلات لم يحالفها الحظ، ما جعل حالة من السخط والتساؤلات المشروعة تطفو على السطح عبر تغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي، حول آليات ومعايير التوزيع.
ولا تعرف الخمسينية أم أحمد قدسية كيف وصل الدجاج لبعض المواطنين في شمال قطاع غزة، أو حتى الطريقة التي يمكن لعائلتها الحصول عليه من خلالها، وتقول لـ"نوى": "منذ شهور طويلة نسي أبنائي طعم الدجاج، ليس هذا فحسب، حتى الخضروات لا نستطيع شراءها بسبب ارتفاع سعرها بشكل جنوني، وغير مقبول".
ووفقًا لأم أحمد، فكل معارفها وأقاربها من المحيطين لم يحصلوا على حصة من الدجاج، حتى ممن يبلغ عدد أفراد أسرهم تسعة وأكثر، في حين أن آخرين وذوي عدد أفراد أقل حصلوا على واحدةٍ بالفعل.
لا تنسى أم أحمد أنها كانت في كثير من الأيام تنام ودموعها تبلل وجهها، بسبب عجزها أمام طلبات أبنائها البسيطة، مثل توفير الخبز الأبيض. تخبرنا:" تعرض ابني (18 عامًا) لوعكة صحية امتدت لشهر متواصل بسبب تناوله خبز الشعير. لم تتقبل معدته هذا الخبز، ووجدنا أنفسنا مجبرين على شراء الطحين الأبيض الذي وصل في حينه سعر الكيلو لـ 180 شيكلًا (50 دولارًا)، ولك أن تتخيلي مجرد توفير الدقيق سيكلفنا ضعف ما يتقاضاه زوجي من راتب".
مؤخرًا، دخل إلى شمال القطاع الأرز والعدس، لكن هذا ليس كافيًا -تقول السيدة- فالمواطنين هنا يعانون من نقصٍ في كل شيء، وغلاءٍ أكثر من فاحش، وهو ما يجعلنا نواجه أكثر من حرب، الأقسى بينها حرب التجويع، التي تعصف بالكبير وبالصغير، وحولتنا إلى أجساد هزيلة لا تقوى على شيء".
لكن كيف تتحايل أم أحمد على طفلتها الصغيرة، ذات السبعة أعوام؟ تضيف: "ليس أمامي سوى أن أقوم بتصبيرها بأن الأمر قارب على الانتهاء، وأزرع داخلها وداخل أشقائها الذين يطلبون ويشتهون كل شيء أيضًا، الأمل بأن الخير قادم، وأن هذه الأيام العصيبة ستمضي وتصبح مجرد ذكرى".
ما يشق على أم أحمد وكثيرون أمثالها أن الحرب دمرت طموحات وأحلام الصغار والكبار، "وبعد أن كانت أحلام أبنائنا التخرج والانخراط في سوق العمل، أو السفر، أصبحت أن يتوفر الغذاء، وألا نموت جوعًا. أن يأكلوا اللحم والدجاج، الذي أصبحوا يشمّون رائحته وهي تنبعث من بعض المنازل، فلا يعرفون سبيلًا للحصول عليه" تردف بقهر.
تتمنى أم أحمد أن تعلن الجهات التي تقوم بإدخال المساعدات من لحوم وخضروات، عن معايير وآليات التوزيع، ليتسنى لها ولغيرها من المواطنين الحصول على هذه المساعدات، أو على الأقل أن يبعث الأمل في قلوب أبنائها بأن الدور سوف يصلهم حتى ولو بعد حين.