غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
في خريف العمر، يتحوّل الجسد إلى غصن يابس، وتنهار الخطوات التي كانت قوية يومًا. يصبح الإنسان رهين جسده، عاجزًا عن أبسط الحركات، حتى عن احتياجاته الطبيعية. وفي هذا الانكسار، قد تتحوّل قطعة صغيرة من القطن والبلاستيك (حفاضة للبالغين) إلى مسألة وجودية، إلى حاجته الوحيدة للحفاظ على كرامته، وشيء يمنحه لحظة طمأنينة في بحر الألم والصمت.
حين تغيب هذه المستلزمات، يتحوّل الغياب إلى كارثة صامتة، يئن معها كبار السن بصوت لا يسمعه أحد، ويكابدون خيبة إنسان فقد السيطرة على جسده، وعجز عن حماية ذاته من الألم والعار.
الحاجة زكية أبو عودة، سبعينية من بيت حانون، وجدت نفسها اليوم نازحة في مدرسة ناصر بخان يونس، جنوبي قطاع غزة، بعدما فقدت بيتها وصارت الغربة قسرًا هواءها اليومي.
"نحن في المدرسة لا نجد لها حفاظات، وحين لا نجد، نضطر لاستخدام القماش أو أي شيء متوافر. هذا يسبب لها التهابات ويزيد من وجعها، لكن أكثر ما يكسرها هو الإحراج".
لم تكن غريبة عن الألم من قبل؛ فقد خاضت معارك طويلة مع آلام الغضروف، أجرت خلالها عمليات متكررة أرهقت جسدها حتى أصيبت بالشلل، وأصبحت أسيرة سرير لا يغادرها. لكنها اليوم تواجه معركة أخرى أشد قسوة: الحاجة إلى الحفاضات.
تقول قريبتها التي تعتني بها: "نحن في المدرسة لا نجد لها حفاظات، وحين لا نجد، نضطر لاستخدام القماش أو أي شيء متوافر. هذا يسبب لها التهابات ويزيد من وجعها، لكن أكثر ما يكسرها هو الإحراج.. تشعر أنها فقدت كرامتها".
تحمل زكية ثلاث مآسٍ في جسد واحد: ألم المرض الذي جعلها مقعدة، وألم النزوح الذي اقتلعها من بيتها، وألم فقدان ما يحمي كرامتها في شيخوختها المرة.
"أنا طول عمري من ذوي الإعاقة، متعود على الألم، لكن أصعب شيء أن تحتاج شيئًا بسيطًا مثل الحفاضة ولا تجده.. حينها تشعر أنك لست إنسانًا".
أما ماهر المدهون، ابن الثالثة والستين، فقد عاش ستة عقود من الإعاقة. يعاني شللًا رباعيًا منذ ولادته، إضافة إلى تبول لا إرادي. نزح من منزله في جباليا، شمالي قطاع غزة، إلى مركز إيواء في دير البلح، ليجد نفسه وسط حربٍ تنزع منه أهم احتياجاته (الحفاضات الطبية). غيابها حوّل معاناته المزمنة إلى جرح مضاعف، وجسّد مأساة ذوي الإعاقة في غزة، الذين يُحرمون من أبسط حقوقهم الإنسانية في ظل الحرب والحصار.
يقول بمرارة: "أنا طول عمري من ذوي الإعاقة، متعود على الألم، لكن أصعب شيء أن تحتاج شيئًا بسيطًا مثل الحفاضة ولا تجده.. حينها تشعر أنك لست إنسانًا".
يتضاعف القهر هنا: ألم الجسد من جهة، والشعور بأنه عبء على أحبته من جهة أخرى، وكأن وجوده صار ثقيلًا على حياة أسرته.
رحمة أحمد إبراهيم (78 عامًا)، نزحت هي الأخرى من بيتها في مشروع بيت لاهيا، شمالي قطاع غزة، إلى مركز "الحياة الشمولي لذوي الإعاقة" في دير البلح. بعد جلطة دماغية أقعدتها، تعيش رحمة مأساة التبول اللاإرادي الذي يزيد من معاناتها اليومية.
ومع نقص الحفاضات الطبية، تجد نفسها أمام مواجهة قاسية مع المرض والخذلان، حيث تغيب أبسط مقومات الرعاية والكرامة الإنسانية. تقول بصوت متعب: "أنا كبيرة في العمر.. لا أريد سوى أن أبقى نظيفة وأن أملك حفاضات، حتى هذا الشيء البسيط حرمونا منه".
مشكلتها لم تعد جسدية فقط، بل جرح عميق في الروح: خيبة أمل، فقدان سيطرة، شعور بالذل، وانكسار أمام أحبائها.
ليست القصة إذن مجرد حفاضة وحسب، بل كرامة تُسلب، وإنسان يُهزم بصمته. تتفاقم الأمراض: التهابات جلدية، تقرحات، التهابات بولية، وأحيانًا دخول المستشفى. لكن الجرح الأعظم يظل في النفس: إحساس بالعار، بالعزلة، وبأن الشيخوخة تحوّلت إلى عقوبة لا إلى مرحلة طبيعية.
حفاضة كبار السن ليست سلعة استهلاكية، بل درع صغير يحمي ما تبقى للإنسان من كرامة في خريف العمر. وحين تُسلب، يُسلب معها معنى الحياة.
تنهار الأسر تحت ضغط الحاجة: بين كلفة الحفاضات المرتفعة، والبحث عن بدائل قاسية لا توفر الحماية، مثل الأقمشة المهترئة، والملابس القديمة، والمناشف، والبطانيات أو حتى الأغطية البلاستيكية.
بدائل لا تقي الجسد، بل تزيده عذابًا، وتضاعف ألم الروح، وكأن الإنسان يُعامل كشيء لا يحق له الكرامة.
حفاضة كبار السن ليست سلعة استهلاكية، بل درع صغير يحمي ما تبقى للإنسان من كرامة في خريف العمر. وحين تُسلب، يُسلب معها معنى الحياة.
هؤلاء المسنون لا يطلبون المستحيل. يريدون فقط أن يعيشوا بكرامة، أن يرحلوا نظيفين من الذل، خفيفين على قلوب أحبائهم، وألا يتحوّل صمتهم إلى صرخات يختنق بها وجودهم.