أميمة الشاذلي
"من أقدم المدن التي عرفها التاريخ. إنها ليست بنت قرن من القرون، أو وليدة عصر من العصور، وإنما هي بنت الأجيال المنصرمة كلها، ورفيقة العصور الفائتة كلها، من اليوم الذي سطر التاريخ فيه صحائفه الأولى إلى يومنا هذا".
بهذه الكلمات، تحدث المؤرخ الفلسطيني المقدسيّ عارف العارف، عن مدينة غزة، في كتابٍ صدر عام 1943م، جمع فيه خلاصة ما ورد عن هذه المدينة الساحلية في المؤلفات العربية والإنجليزية والفرنسية والتركية.
وفي كتابٍ أقدم، صدر عام 1907م للحاخام الأمريكي مارتن ماير عن غزة، وصفها المستشرق الأمريكي ريتشارد غوتهيل في مقدمته قائلًا إنها "مدينة مثيرة للمهتم بدراسة التاريخ".
وأوضح غوتهيل أهميتها الاستراتيجية قائلاً: "إنها نقطة التقاء للقوافل التي كانت تنقل بضائع جنوب الجزيرة العربية والشرق الأقصى إلى البحر الأبيض المتوسط، ومركز توزيع هذه البضائع إلى سوريا وآسيا الصغرى وأوروبا، وهي كذلك همزة الوصل بين فلسطين ومصر".
ومن المثير للاهتمام، أن موسوعة "معجم البلدان" للأديب والرحالة ياقوت الحموي، ذكرت ثلاث بلدات عُرفت بهذا الاسم في المنطقة، الأولى "جزيرة العرب" التي تحدث عنها "الأخطل" في شعره.
والثانية بلد بـ "إفريقيّة" وهو الاسم القديم لتونس، يقول الحموي "إن بينها وبين القيروان مسيرة ثلاثة أيام، تنزلها القوافل المتجهة إلى الجزائر".
أما غزة الأشهر عبر التاريخ، فيصف الحموي موقعها بأنها "مدينة في أقصى الشام من ناحية مصر، وهي من نواحي فلسطين غربي عسقلان".
منذ قديم الزمان والعرب يطلقون عليها "غزة"، وفي العصر الإسلامي أطلِق عليها "غزة هاشم" في إشارة إلى جد نبي الإسلام "هاشم بن عبد مناف" الذي توفي فيها، وهي التي ولد فيها "الإمام الشافعي" مؤسس المذهب الإسلامي الشهير، الذي قال عنها:
وإني لمشتاق إلى أرض غزة * وإن خانني بعد التفرقِ كتماني
ويقول العارف في كتابه "تاريخ غزة" إن الكنعانيين كانوا يطلقون عليها "هزاتي"، أما المصريون القدماء فكانوا يسمونها "غازاتو" أو "غاداتو".
وقد جاء في المعجم اليوناني أنها سميت عبر العصور بأسماء مختلفة، منها "إيوني" و"مينووا" و"قسطنديا"، كما أطلق عليها الصليبيون "غادريس".
معنى غزة..
ويقول يوسابيوس القيصري الذي أطلق عليه "أبو التاريخ الكنسي"، وقد عاش في القرن الرابع بعد الميلاد، إن "غزة" تعني العِزة والمَنَعة والقوة. وانضم إليه في ذلك، بحسب "العارف"، السير وليام سميث في قاموس العهد القديم الذي صدر عام 1863.
وأرجع الفريق السبب في ذلك إلى الحروب الكثيرة التي دارت رحاها في المدينة وحولها، التي صمدت غزة خلالها، وهو المعنى الذي يميل إليه المؤرخ الفلسطيني.
أما "صفرونيوس" صاحب قاموس العهد الجديد الذي صدر عام 1910م، فيقول إن "غازا" كلمة فارسية تعني الكنز الملكي، وهو معنى لا يبتعد كثيرًا عمن يقول إن "غزة" كلمة يونانية تعني الثروة أو الخزينة.
ويُقال "إن ملكًا من ملوك الفرس دفن ثروته فيها وغاب عنها، ثم رجع إليها فوجدها على حالتها". وقيل إن تلك الرواية تكررت في عهد الرومان.
وفي المعاجم العربية، يقال "غزَّ فلان بفلان" أي اختصه من بين أصحابه، وهو المعنى الذي أورده الحموي في معجمه وهو يتحدث عن مدينة غزة، ويشرح "العارف" المعنى قائلاً "إن ذلك يعني أن الذين بنوا غزة، اختصوها من بين المواقع الأخرى على البحر المتوسط".
كما ذكر ياقوت الحموي أن "غزة" كان اسم زوجة "صور"، الذي بنى مدينة صور الفينيقية التي تقع في لبنان حالياً.
من بنى غزة؟
يقول عالم الآثار الإنجليزي السير فلندرس بتري "إن غزة القديمة أنشئت قبل الميلاد بثلاثة آلاف عام، فوق التل المعروف بـ "تل العجول"، وإن سكانها تركوها بسبب الملاريا التي اجتاحتها في ذلك الوقت".
وعلى بعد ثلاثة أميال، حط سكانها رحالهم و أنشأوا غزة الجديدة الموجودة في موقعها الحالي. ويقال "إن ذلك حدث في عهد الهكسوس الذين سيطروا على هذه المنطقة قبل ألفي عام من ميلاد المسيح".
وهناك من ينفي هذه الرواية، ويقول إن غزة ما زالت حتى اليوم في موقعها القديم، وإن "تل العجول" كانت ميناء غزة التجاري. وهناك من قال "إن غزة القديمة خّرِّبت على يد الإسكندر الأكبر، وإن غزة الحديثة ليست ببعيدة عنها كما قال السير بتري".
ويقول "العارف" في كتابه إن "المعينيين" الذين يقال إنهم أقدم شعب عربي، حمل لواء الحضارة في الألفية الأولى قبل الميلاد، هم أقدم من ارتاد مدينة "غزة"، وأسسوها كمركز يحملون إليه بضائعهم.
وتنبع أهمية "غزة" لدى العرب، من كونها تربط بين مصر والهند، فكانت الطريق التجاري الأفضل لهم مقارنةً بالملاحة في البحر الأحمر، ومن هنا تأسست مدينة غزة واكتسبت شهرتها التاريخية.
وكانت التجارة تبدأ من جنوب بلاد العرب في اليمن، التي يجتمع فيها تجارة البلاد وتجارة الهند، ثم تسير شمالًا إلى مكة ويثرب "المدينة المنورة حاليًا" والبتراء، قبل أن تتفرع إلى فرعين؛ أحدهما في غزة على البحر المتوسط، وثانيهما في طريق الصحراء إلى تيماء ودمشق وتدمر.
ومن هنا استنتج مؤرخون أن مملكة معين وسبأ أولى الممالك العربية التي أسست مدينة غزة. كما كان "العويون" و "العناقيون" الذين يقال إنهم الفلسطينيون القدماء، وجاء ذكرهم في أسفار العهد القديم، هم أول من استوطن غزة، بحسب "العارف".
كما استوطنها "الديانيون" أحفاد النبي إبراهيم، و"الآدوميون" وهي قبائل بدوية كانت تقطن جنوبي الأردن، و"العموريون" و"الكنعانيون" الذين اختُلف في أصلهم.
الكنعانيون
يذكر كتاب "تاريخ غزة" أن سفر التكوين ذكر المدينة باعتبارها من أقدم مدن العالم، سكنها الكنعاني من نسل حام بن نوح، وفي رواية أخرى أنها كانت قائمة عندما احتلها الكنعانيون وأخذوها من العموريين.
وقد ذكر المؤرخ ابن خلدون عن ابن جرير، أن الكنعانيين من العرب البائدة، وأنهم يرجعون بأنسابهم إلى العمالقة.
ويرى البعض أن الكنعانيين أتوا من "خليج العجم" المعروف حاليًا بالخليج العربي، والبعض قال "إنهم جاءوا من البحر الأحمر"، ويقدر المؤرخون أنهم عاشوا في هذه المنطقة قبل 5 آلاف عام.
ويعتقد السير بتري أن قسمًا كبيرًا من سور المدينة الذي عُثر على بقاياه، أنشئ في عهد الكنعانيين، وأن المنقبين لم يعثروا على حجارة ضخمة بهذا الحجم بعد الكنعانيين.
كما عُثر في الطرف الجنوبي من تل العجول على أطلال مدينة كنعانية، كانت على ما يبدو تحت احتلال الهكسوس. وعُثر كذلك على مقابر يعود بعضها إلى العصر البرونزي قبل الميلاد بـ4000 عام.
ويقول "العارف": "الكنعانيون هم أول من عرف زراعة الزيتون على هذه الأرض، وصناعة النسيج، والفخار، والتعدين، واخترعوا الحروف الهجائية، وسنوا الشرائع والقوانين، فأخذ عنهم بنو إسرائيل الكثير من سننهم وشرائعهم وأفكارهم ومبادئهم حتى حضارتهم".
وقد وقعت غزة عبر تاريخها القديم تحت سيطرة قدماء المصريين والبابليين والآشوريين واليونان والفرس والرومان.
وقد وصف المؤرخ الفلسطيني عارف العارف تاريخ غزة بـ"المجيد"؛ لأنها "صمدت لنوائب الزمان بجميع أنواعها، وطوارئ الحدثان بجميع ألوانها، حتى أنه لم يبق فاتح من الفاتحين أو غاز من الغزاة المتقدمين والمتأخرين الذين كانت لهم صلة بالشرق، إلا ونازلته، فإما أن يكون قد صرعها، أو تكون هي قد صرعته".
المصدر (بي بي سي نيوز عربي)