شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم السبت 20 ابريل 2024م10:23 بتوقيت القدس

43 إنسانًا بينهم 5 من ذوي الإعاقة

عائلة نبهان.. بـ"5 دقائق" جمعت شتات دمعها و"أخْلَت"

17 مايو 2023 - 10:46

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

أمام ركام أحلامها، تقف المُسنة نجاح نبهان صامتةً مشدوهةً تتساءل بصوتٍ خافتٍ مقهور: "وين أروح يا رب؟ شو أسوّي الهمني يا الله".

من خلفها، يجلس على التراب أكثر من 40 شخصًا، ما بين أطفالٍ ونساءٍ ورجال، يبكون "الأمان" الذي خطفه منهم صاروخٌ إسرائيليٌ غادر، أصاب منزلهم في مدينة جباليا شمالي قطاع غزة، الذي كان يضم سبع عائلات، من بين أفرادها 5 من ذوي وذوات الإعاقة.

تدقق الستينية نجاح النظر بين الحجارة المتكدسة على الأرض، لعلّها تجد بطاقة هويةٍ لأحدهم، أو لباسًا ساترًا لامرأة، أو حتى لعبة لطفلٍ لم تحترق بنيران حقد "إسرائيل" عبثًا. تمسحُ دموعها بطرف شالها، وتنتقل إلى حيث يتجمع أفراد العائلة قرب البيت.

تعانق ابنتها التي تعاني من زيادة الكهرباء في الجسد، ولم تأخذ علاجها منذ يوم القصف، لعلّها تطفئ لهيب الوجع المشتعل فيه، "ليتني أستطيع أن أقدم لها أكثر من كلمات الصبر، والله ما في اليد حيلة" تقول لـ"نوى" بتأثر.

بداية الحكاية كانت عند "كمال"، الذي كان يجلس مع مجموعةٍ من أصحابه قبل أن يرده اتصال من شخصٍ يتكلم العربية المكسّرة، ويطلب منه إبلاغ أهل البيت بالإخلاء خلال 10 دقائق.

يقول كمال: "للوهلة الأولى ظننتُ الأمر مزحة، وذهبت بعيدًا إلى أن يكون المتحدث (اسطوانة) تُشغل بعد الاتصال على أرقامٍ عشوائية، فنحن ليس لنا بشيء! نحن مواطنون مدنيون عزّل، بالكاد نستطيع توفير قوت يومنا، ولدينا 5 من ذوي الإعاقة، واستهداف بيتنا مستبعدٌ تمامًا".

عاد الاتصال مجددًا، فلما فصل كمال الخط أكثر من مرة، ثم عادَ فرد، قابله الضابط بعصبيةٍ ولوم كونه كان يفصل الخط في وجهه! ولما برر له كمال ظنّه بأنها اسطوانة أو مزحة، قال له بالحرف الواحد: "طيب على هيك معاكم 5 دقائق، والبيت راح ينزل على رؤوس سكانه".

"حكيت لأمي ما صدقت. قلتلها يما والله ما في وقت. صارت تنادي وتحكي:  تمزحش يا كمال في البيت اللي بنيناه حجر حجر".

هنا، سبقت صرخات كمال أقدامه نحو البيت، كانت أمه حينها تسكب الطعام تجهّزًا لتناول الغداء، لا سيما وأن ابنتها حورية برفقة أطفالها مستضافة عندها منذ أول ساعات العدوان.

يتابع كمال: "حكيت لأمي ما صدقت. قلتلها يما والله ما في وقت. صارت تنادي وتحكي: إنت بتمزح صح؟ تمزحش يا كمال في البيت اللي بنيناه حجر حجر الله يخليك".

حينها، بكى كمال، وصار يقسم لأمه بأنه يقول الحقيقة، لتبدأ بدورها بحمل من استطاعت من الأطفال إلى الخارج، والصراخ على الجيران للمساعدة. تكمل الحاجة نجاح: "خرجتُ بدون حجابي. كان الموقف مرًا صعبًا، أنادي على الجيران، أرجوكم أولادي من ذوي الإعاقة في الداخل ساعدونا"، مردفةً وهي تحاول حبس دموعها: "إحدى الجارات ألقت إلي بشال كي أضعه على رأسي. هنا فقط أيقنتُ أن عائلتي صارت مشردة".

"وكأنه يوم الحشر" تصف المشهد، أهل الحي كلهم تجمعوا في بيتها يُخرجون الأطفال والنساء، وبناتي من ذوات الإعاقة. وتزيد: "كل ما تمكنا من إنقاذه أرواحنا، أما الكراسي المتحركة، وجهاز المشي الخاص بإحدى البنات، ودواء ابنتي المصابة بزيادة الكهرباء كل هذا رُدم تحت الحجارة".

تستذكر الأم المقهورة المشهد بألم، وتضع يدها على قلبها الذي تقول "إنها تشعر أنه سيتوقف من الوجع"، وتتابع: "في لحظة، قلتُ لأبنائي اخرجوا أنا سأموت هنا، فرأيتهم جاؤوا يتوسلون إلي كي أخرج. ولولا أنهم أقسموا أن يبقوا معي ليلاقوا نفس المصير لما خرجت".

الابنة حورية تدلي بشهادتها لـ "نوى" فتقول: "كان المشهد مهول، جئت إلى بيت أمي طلبًا للأمان، لكن للأسف لا يوجد أمان تحت نيران إسرائيل. كل ما هو فلسطيني مستهدف، لا يفرقون بين ذوي إعاقة أو أطفال أو نساء، أو أبرياء. الجميع بالنسبة لهم يجب أن يُقتل".

وتردف: "من هول الموقف، نسينا طفل وطفلة في الأسرة أعلى الموقف. لولا أن أمهما افتقدتهما لكانا راحا شهيدين تحت القصف. هب الجيران فورًا إلى الطابق المقصود، بينما الأم تصرخ في الأسفل، ولم نصدق أنفسنا عندما وجدنا أبناء الجيران وقد عادوا بهم أحياء قبل قصف البيت".

حورية: وقعت أمي على الأرض، لا شيء أمامنا سوى الرماد، ودخان الصاروخ  يتصاعد إلى الأعلى، تاركًا في الأسفل قلوبًا تحترق من الألم".

مشهد أفراد العائلة بعد القصف، لا يمكن أن يُمحى من ذاكرة حورية، فهذا المكان بُني حجرًا حجرًا بتعب وشقاء سنواتٍ طوال. تزيد: "وقعت أمي على الأرض، وأشقائي وقفوا دون أن يبنس أحدهم ببنت شفة! لا شيء أمامنا سوى الرماد، وغبار الصاروخ ودخانه يتصاعد إلى الأعلى، تاركًا في الأسفل قلوبًا أيضًا تحترق من الألم".

بين الركام المتناثر يفاجئك كتابٌ نجا من القصف عنوانه (دليل حقوق الإنسان)، تهز رأسك، ثم تلتفت لتنظر إلى الهلع المرسوم على وجوه أصحاب المنزل الذين باتوا بلا جدران تحمي خوفهم، ولا سقف!

ثم يصدمك سؤال "علاء"، العريس الذي تمكّن أخيرًا من ترتيب بيتٍ صغيرٍ يضمه وخطيبته قبل أن تقصف العمارة بالكامل: "من وين أجيب عمر جديد علشان أرجع أحوّش لتأسيس بيت ثاني؟"، فتترك المكان بصمت، لأنك تعي بأن كل عبارات المواساة لن تساوي وجع الفقد في قلوب الفاقدين، وإن كان المفقود حجرًا تعبوا فيه.

قُصِف منزل عائلة نبهان خلال العدوان الذي شنّته حكومة الاحتلال الإسرائيلية على قطاع غزة، في التاسع من مايو/ آيار الجاري، مع 151 وحدة سكنية أخرى دُمرت بالكامل، و891 وحدة دُمّرت بشكل جزئي.

وراح ضحية العدوان الإسرائيلي 33 شهيدًا، من بينهم 6 أطفال و4 نساء، وأصيب 190 إنسانًا بجراح مختلفة من بينهم 48 طفلًا و26 سيدة.

كاريكاتـــــير