شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الجمعة 29 مارس 2024م18:09 بتوقيت القدس

قصة "يوم الأرض".. و"رجا" الذي افتدى بدمه "سخنين"

30 مارس 2023 - 11:41
جليلة وأبنائها الأربعة في تأبين والدها الشهيد رجا أبو ريا
جليلة وأبنائها الأربعة في تأبين والدها الشهيد رجا أبو ريا

سخنين:

"أتمنى لو أستطيع أن أريك الأرض التي استشهدت من أجلها يا أبي، إنها هناك، كما أردتَها جنة خضراء، مزروعة باللوز والزيتون"، بهذه الكلمات، وبعد تنهيدةٍ عميقة، بدأت جليلة أبو ريا حديثها لـ"نوى".

جليلة، هي ابنة الشهيد رجا أبو ريا، أحد شهداء يوم الأرض، الذي ارتقى برفقة خمسة آخرين عام 1976م في بلدة سخنين، خلال احتجاجٍ على مصادرة الاحتلال لبعض الأراضي هناك.

جليلة التي شارفت على إنهاء العقد الرابع من عمرها، كانت بعمر عامين حين استشهد والدها، فنشأت ابنة شهيد، "وهذا فخر كبير، ومسؤولية اقتضت مني أن أكون على قدرها. علمتني أمي أن والدي حمل قضية، ونحن ورثناها عنه، وعلينا توريثها لأبنائنا كذلك" تقول.

بالعودة إلى ذلك التاريخ، كانت العصابات الإسرائيلية قد أعلنت دولة "إسرائيل" على أنقاض القرى والمدن الفلسطينية التي هَجّروا غالبية أهلها بارتكاب مجازر جماعية بحقهم، وبقي بعض الفلسطينيين يدافعون عن أرضهم وهويتهم، عُرفوا لاحقًا باسم "فلسطينيو 48"، أو "فلسطينيو الداخل المحتل"، لكنهم لم يسلموا من المضايقات أبدًا.

تعلم جليلة تمامًا منذ صغرها كيف استشهد والدها، "إذ كان يقف على باب البيت، وطلب منه الجنود الدخول فرفض، فلما رأى الجيبات العسكرية تقتحم البلدة والجنود يمارسون العنف ضد أهلها، انخرط في الاحتجاجات، وكان سلاحهم آنذاك الحجارة"، مردفةً: "أطلقوا عليه النار من مسافةٍ قريبة، وأصابوه في وجهه، ومنعوا ابن عمه من إنقاذه. لقد تركوه ينزف حتى الموت".

رغم مرور السنين، كان صوت جليلة يحترق وهي تروي الحكاية. ذكرى موجعة لا يريد القلب أن ينساها "لأن النسيان يولّد الرضوخ"، أن تغدو يتيمةً برفقة أخواتها الثلاث، وابنةً لأرملةٍ بعمر 22 عامًا فهذا أقسى ما يمكن يعيشه إنسان.

تضيف: "كانت الظروف صعبة بالداخل بوجود الأبوين، فما بالكم بيتيمات أب؟ (..) في ذلك الحين، لم يكن المجال مفتوحًا لعمل النساء، وقد تولت أمي تربيتنا بمساعدة الأقارب والجيران حتى كبُرنا وتعلّمنا".

لا يقف الأمر عند حد الإنفاق، فالأب أساسي في حياة ابنته، هو عينها الثالثة كما تروي جليلة: "كأنني نشأت بلا عين، الحرمان من الأب لا يعوضه شيء، هو شعور يلازمني حتى اللحظة رغم أنني شارفت على أن أصبح جدّة، لكن بكل لحظة أشعر بحاجتي لأبي".

تتحسس جليلة صور والدها الذي استشهد بعمر (27 سنة)، وتحاول أن تتخيل أنه اصطحبها للمدرسة، تتخيل وجهه في عمر الأربعين كيف كان؟ كيف كان سيبدو يوم زفافها؟ وكيف سيستقبل أحفاده؟  "والغصة أن الاحتلال لم يفتح تحقيقًا بجريمته، ومرّت كما غيرها من الجرائم" تزيد.

لدى جليلة أربعة أبناء، يدركون تمامًا كيف استشهد جدهم، تعلموا أن الوطن يُفتدى بالروح، وأن فلسطين التاريخية لا تعرف القسمة، وأن أبناء سخنين سيبقون صامدين، فهم يسمعون عن جدهم وشجاعته ومكارم أخلاقه، "هو شهيد وهذا وحده فخر" تقول.

وتعقب: "هذه التجربة علمتني كيف أتحدى الصعاب وأواجه الحياة، وألا أتنازل عن حقي أبدًا. أن أصمد حتى آخر نفَس حتى أستطيع العيش"، ثم تصمت قليلًا قبل أن تكمل بحرقة: "مع ذلك لا شيء يعوّض أبي".

ويعيش في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948م أكثر من مليون ونصف فلسطيني، 83% منهم يدينون بالإسلام، و10% يدينون بالمسيحية، أما الباقي فدروز، وجميعهم يناضلون من أجل حقوقهم الاجتماعية والسياسية، في ظل احتلالٍ حولهم لمواطنين من الدرجة الثانية، وما زالوا يناضلون لتثبيت هويتهم الفلسطينية.

تقول جليلة: "في يوم الأرض تزورنا الكثير من المؤسسات كما باقي بيوت الشهداء، وننطلق في فعاليات إحياء لذكرى هذا اليوم، وبعد وضع أكاليل الزهور على أضرحة الشهداء، يتم إلقاء الكلمات التأبينية".

عائلة الشهيد رجا أبو ريا، لا تترك مناسبة وطنية إلا وتشارك فيها بكامل أفرادها، كما أخبرتنا سابقًا زوجته صبحية "أم شادية"، التي تشارك سنويًا في فعاليات إحياء يوم الأرض ببلدة سخنين، برفقة بناتها الأربع وأزواجهن وأولادهن.

السيدة التي شارفت على ختام عقد عمرها السادس، ما تزال تذكر تفاصيل اليوم الذي جاءها فيه خبر استشهاد رجا، فتقول: "أذكرها كأنها حدثت الآن. شادية أكبر بناتي كانت بعمر أربع سنوات، وأصغرهن بعمر ثلاثة أشهر. لم نكن نتوقع أن يحدث شيءٌ كهذا، فمنذ أن بدأ الاحتلال، ورغم كثرة المضايقات، لم يسبق أن حدثت صدامات على الأرض بين الفلسطينيين والاحتلال".

تكمل أم شادية: "كانوا يصادرون الأراضي الزراعية، ويحولونها لمراكز تدريب للجنود، كانت مليئة بالمتفجرات التي استشهد فلسطينيون بسببها، وهذا ما أفضى إلى شحن الفلسطينيين نفسيًا بشكل كبير في ذلك الوقت".

في عام 1950 أصدر الاحتلال الإسرائيلي قانون أملاك الغائبين، الذي يسيطر بموجبه على آلاف الدونمات لفلسطينيين هاجروا أثناء النكبة، وقبل أحداث يوم الأرض، صادر الاحتلال مئات الدونمات لمواطنين فلسطينيين ما زالوا يعيشوا عليها، وهو ما تسبب في موجةٍ من الاحتجاجات، التي قابلتها قوات الاحتلال بالقمع. ارتقى الشهيد الأول خير ياسين في 30 مارس، وفي اليوم الثاني تبعه خمسة شهداء آخرين، هم رجا أبو ريا، وخديجة شواهنة، وخضر خلايلة، ومحسن طه، وورأفت زهيري.

تقول أم شادية: "حدثت اجتماعات بين الشبان، وقرروا الإضراب وتنفيذ احتجاجات ضد سياسات الاحتلال، وليلة 30 مارس هاجمت دوريات الاحتلال عدة قرى هي: سخنين، وعرابة، ودير حنا، وطمرة، وطرعان، وكابول، وحاولت منع الناس من الاحتجاج بالقوة".

تضيف: "في الثلاثين من مارس، خرج الناس في مظاهرات جماعية، نساء ورجال ضد مصادرة الأراضي، فوقعت اشتباكات سقط على إثرها 6 شهداء بينهم 3 من سخنين، وأحدهم زوجي"، متابعةً بقهر: "أصيب في البداية إصابةً خطِرةً في وجهه، ومنع الاحتلال ابن عمه من إنقاذه، بل قالوا له سنتركه حتى يموت، وبعد تدهور حالته تركوه ينقله للمستشفى لكنه استشهد هناك".

وتكمل: "لم يسبق أن شهِدنا مثل هذه الاشتباكات. امتلأت البلدات الفلسطينية بالجنود، وعاملوا الناس بفظاعة، لكن الناس كانوا أشد إصرارًا على الاستمرار، دماء زوجي لم تذهب هدرًا، فقد عادت الأراضي لأصحابها. زوجي كان تواقًا للشهادة في سبيل الوطن والقضية".

صُدم الاحتلال بما حدث، فهذا يعني أن الأرض بالنسبة للفلسطينيين توازي الروح، وأنهم سيواصلون التعامل معهم كاحتلال، لا كسلطة حاكمة.

هنا تؤكد أم شادية: "بعد استشهاد زوجي ربيت بناتي وعلمتهنّ جيدًا، أفهمتهم لماذا استشهد والدهم ليبقوا على نهجه. كبُرت البنات، وتزوجّن وأنجبن جميعًا، وها هنّ يُعلّمن أبناءهن لماذا استشهد جدهم؟".

وإذ تبدو أم شادية سيدة قوية تحملت عثرات الزمن، لكنها بالمقابل قوية بما تحمل من مبدأ أرادت نقله للأجيال، "أن فلسطين هي فلسطين ولا شيء نتربى عليه يحمل اسمًا آخر" تختم.

ويعدُّ يوم الأرض، حدثًا محوريًا في الصراع على الأرض، وفي علاقة المواطنين الفلسطينيين بالجسم السياسي الصهيوني، إذ كانت تلك المرة الأولى التي يُنظّم فيها العرب في فلسطين منذ عام 1948م (أي منذ إعلان دولة الاحتلال) احتجاجات منظمة، ردًا على السياسات الصهيونية بصفة جماعية وطنية فلسطينية.

كاريكاتـــــير