شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الثلاثاء 16 ابريل 2024م11:40 بتوقيت القدس

لا الأزقة ستنسى ولا "جُدران" الانتفاضة.. وداعًا منتهى عقل

16 يناير 2023 - 15:38

رام الله:

بصعوبةٍ، استجمعت تحرير الأعرج قواها لتبدأ حديثها مع "نوى". "منتهى عقل، أكبر من أي كلمةٍ يمكن أن تُقال بحقها حيةً وميتة" قالت بصوتٍ ينزف قهرًا.

رحلت منتهى. تلك المناضلة العنيدة المكافحة لأجل حقوق النساء، "رحلت بعد رحلةٍ حافلةٍ من العمل والعطاء بعد حربٍ خاضتها "قويةً" مع السرطان" الأربعاء الماضي.

نضالها حيث وُلدت في شوارع وأزقة مدينة رام الله "التحتا" خلال الانتفاضة الأولى، كأبرز الناشطات ضد الاحتلال الإسرائيلي، كان مبررًا كافيًا لحالة الحزن التي خيّمت على كل من عرف "منتهى"، أو أم عمّار كما تحب أن تُنادى. لقد وُلدت معطاءة، وماتت "تأمل للوطن الوحدة والسلام".

تحرير التي تعمل مدير مؤسسة "مِفتاح"، تعرفت على منتهى عام 1990م. فترةٌ كافيةٌ لتتحد معها عقلًا وقولًا وفكرًا. تقول لـ"نوى": "التقيتها أول مرة حين التحقت بجامعة بيرزيت قادمة من قطاع غزة. لقد كانت ناشطةً أيام الجامعة، وتبهر كل من عرفها بقوة شخصيتها ونضج فكرها".

وفق تحرير، فقد عملت منتهى بعد تخرجها في مركز الأبحاث "بيسان"، حيث انصبَّ اهتمامها على قضايا العنف المبني على النوع الاجتماعي، "وفي تلك الحقبة، كانت تمارس ما تؤمن به ولم تكن أبدًا ممن ينظّرون ولا يفعلون" تضيف، وتستدرك: "لكن، كانت أصعب تجربةٍ واجهتها منتهي، هي إصابة طفلتها سارة بمرض السرطان، لكنها كانت لها الداعم والسند حتى شفيت منه تمامًا".

كانت منتهى -والحديث لتحرير- تؤمن بأن "الحرية لا تتجزأ"، وليس من حق أحد سلبَها من أحد. كانت تتعامل مع الكل الفلسطيني بتنوّعه دون تصنيف ولا تنميط، ومثلما كانت تشارك في إفطارات رمضان، كانت تحيي عيد الميلاد المجيد "وهذا ربما جعل من الصعب لمن لا يعرفها تحديد ديانتها". تعقب بأسى: "هذه هي منتهى المتصالحة مع الجميع والمحبّة للجميع".

"في بداية إصابتها بالسرطان كانت قوية متماسكة، تأخذ جرعة الكيماوي الذي تسميه "كيمو"، وتعود لاحقًا إلى العمل بحبٍ ونشاط"، تخبرنا تحرير، وتزيد: "حين سقط شعرها ظلّت تحيا بروحها الإيجابية، عادةً ما تمر به مجرد مرحلة. لقد أجرت عملية، وظنت أنها شفيت، لكن يا للأسف".

تأخذ تحرير نفسًا عميقًا، وتحاول أن تداري دمعةً خانتها على غفلة، "كنا قبل فترة نناقش عملًا، فجأة انقطعَت منتهى عن التواصل، قلقتُ عليها، ولما زرتُها كانت غير مستوعبة لما حدث. تتساءل: لماذا عاد إلى المرض، لكنه سرعان ما استعادت روحها المرحة عند الحديث عن الكثير من الذكريات".

في آخر لقاء جمعهما داخل بيتها في مدينة أريحا، تحدثت بأنها ستتقاعد. كان التعب ظاهرًا على وجهها، لكنها أصرت على قطف البرتقال والبوملي من الأرض وتوزيعه، "كان يشغلها تراجع الحركة النسوية، وتفكيرها في كيفية جمع الجهود من أجل تحقيق تغيير على الأرض". "منتهى كانت طاقة من الحب والعطاء والمرح والحيوية، من الصعب تخيّل أنها ماتت" تختم تحرير.

أما الكاتبة والناشطة النسوية ريما نزال، فكانت صديقة منتهى منذ أكثر من 10 سنوات، حيث كان العمل النسوي والسياسي نقطة التقائهما، "خاصة عند العمل على إنفاذ القرار 1325".

تقول نزال: "منتهى كانت إنسانيةً، تجيد الدمج بين ما هو نسوي ووطني، ولديها رؤية نسوية واضحة تعرف كيف تدمجها في كل برامجها. نشاطها كان واضحًا، وقد كانت دقيقة جدًا في عملها، تهتم بكل التفاصيل، وتتواصل مع كل أفراد طاقم أي مشروع تعمل عليه للوقوف على تفاصيله".

لم تساوم منتهى أبدًا على قيمها ومبادئها، وكانت تتابع بشغفٍ كل تفاصيل العمل. "ولهذا كان استيعابنا لفكرة عودة المر ض إليها صعبةً جدًا. وها نحن اليوم نحاول التصديق. لقد غادرتنا منتهى النشيطة المرحة، وإلى الأبد" تضيف.

الكاتب والباحث خالد فرّاج، وبعد وفاتها، كتَبَ مقالًا بعنوان "عن الصديقة منتهى عقل"، تحدث فيه عن أبرز محطات حياتها، خاصة خلال الانتفاضة الأولى، جاء فيه: "عاشت أحداث الانتفاضة الأولى كمناضلة في الميدان، تبدأ يومها في ساعات الصباح الباكر، وتنهيه في ساعات الليل المتأخرة، فكانت تشارك في التظاهرات ضد القوات الإسرائيلية، وترشقهم بالحجارة، وتوزع بيانات قيادة الانتفاضة، وتكتب على الجدران، حين كانت الكتابة على الجدران من أهم وسائل التحريض وتحفيز الناس على الانتفاض، حتى تصادقَت معها وصارت مصدر إلهامها".

يتابع خالد في مقاله متسائلًا: "ماذا ستُخبر هذه الجدران الناس الذين يخضعون لحظر التجول ليلاً؟ والعمال الذين سيذهبون صباحًا إلى أعمالهم؟ أو التجار الذين عصوا أوامر الإدارة المدنية الإسرائيلية ورفضوا الامتثال إلى جباة الضرائب الإسرائيليين؟ ماذا ستُخبر جدران منتهى أطفال الحجارة الذين سيكونون غدًا من المشتبكين؟ منتهى جعلت جدران المدينة تتحدث، إذ نقلت من خلالها رسائل الانتفاضة وقيادتها، وحثت الناس على التضامن والتماسك، وكل ذلك فعلته بصمتٍ لقناعتها بأن الانتفاضة هي لحظة الخلاص والتحرر".

أما الكاتب خالد جمعة، فكتب في حسابه على "فيس بوك" في رثاء منتهى :"مشهد رام الله سيتغير يا منتهى، من هي مثل منتهى لا يمكن تذكُّرها دون ابتسامتها، وصوتها المخملي. كنتُ كلما التقيتُها، أجد في يدها كيسًا من بذور البطيخ، شو يا منتهى، تقول: هينا بنقزقز".

يكمل: "أظنها كانت صديقة الجميع، ليس البشر وحسب، بل الشوارع والجدران والأشجار، تسير معبأة بالطاقة، وتضحك حين نشير إلى كسل صديقنا خالد. سيتغير مشهد رام الله من الآن فصاعدًا، فعلامة من علاماته لم تعد تمرّ من الأمكنة، لم تعد تثير زوبعة من الضحك والتعليقات الساخرة على كل شيء، سنتذكرك دائمًا، دائمًا، دائمًا".

كاريكاتـــــير