شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الاربعاء 24 ابريل 2024م07:04 بتوقيت القدس

في  منزل عائلة "الحديدي"..

على مائدة "الغياب".. ذكرى "فرحةٍ" انطفأت ذات حرب

18 ابريل 2022 - 14:17

غزة:

يُفطر المواطن الفلسطيني محمد الحديدي يوميًا خارج بيته منذ بداية شهر رمضان المبارك بعد أن قتله الغياب. لقد قتل الاحتلال الإسرائيلي زوجته وأطفاله الأربعة خلال عدوان آيار الماضي، عندما لم يجد هدفًا يفرغ فيه وحشيته سوى ضحكاتٍ استجابت للفرح ذات عيد.

يحمل محمد طفله عمر (عام ونصف) الناجي الوحيد من المجزرة، ويدور في بيته الصغير يتأمل صور صغاره الشهداء، ويتحسس بقايا زينة رمضان التي صنعوها العام الماضي وظلّت على حالها.

بهت لون الزينة في بيتٍ بات باردًا فارغًا لا صوت فيه ولا حياة، سوى من تساؤلات الجدة المستغربة قدوم صحافيين إلى بيتهم، وهي التي لا تعلم بعد باستشهاد أحفادها وأمهم رغم اقتراب الذكرى السنوية الأولى لرحيلهم!

في تفاصيل فاجعة الرجل الذي يسكن مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين، قصفت طائرات إف 16 الحربية الإسرائيلية بيتًا يعود لعائلة أبو حطب في مخيم الشاطئ، أثناء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في مايو عام 2021م، الذي استمر حينها 11 يومًا، في الوقت الذي كانت فيه السيدة مها أبو حطب، ومعها أبناؤها الخمسة في زيارةٍ لبيت شقيقها ثالث أيام عيد الفطر، بتاريخ 15 مايو.

أدى القصف إلى استشهاد مها وأطفالها الأربعة "صهيب (13عامًا)، ويحيى (11 عامًا)، وعبد الرحمن (8 سنوات)، وأسامة (6 سنوات)، بينما ظلَّ عُمَر الذي كان يبلغ من العمر 6 أشهر وحيدًا مع والده المفجوع بفقدان عائلته كلها.

يجاهد أبو صهيب لكتم دموعه وهو يروي كيف مرّ عليه هذا العام قائلًا: "ما حدث معي لا يتصوره عقل. أطفالي وزوجتي كانوا معي، وفي غمضة عينٍ فقدتهم، وأصبحت وحيدًا في البيت".

يعقب: "البيت أضحى باردًا ومغلقًا، فأنا أُفطر يوميًا خارج البيت. طقوس رمضان في بيتي كانت جميلة، كنا كخلية نحلٍ ندوي في انتظار الأذان، لكنني اليوم أهرب منه.. أهرب من بيتي كي لا تقتلني الذكريات".

يشير الحديدي إلى بقايا الزينة المعلّقة على حائط وسقف الغرفة، ويكمل: "هذا فانوسٌ من الفوم صنعهُ صهيب، وهذا حبلٌ من الورق الملوّن صنعه يحيى، وكنتُ أنا حينها أدبس الورق وأثبت التعليق"، مردفًا بحسرة: "كانوا يتولون مهمة تحضير السلطة والسمبوسك، كان صغاري روح البيت وبهجته".

ويكمل: "رمضان هذا العام مؤلم وقاسٍ، اعتدتُ أن أحضّر له برفقة زوجتي وأطفالي كأننا في حفل، ليلة الإعلان عن رمضان هربتُ من البيت، لم أتحمّل البقاء فيه، أنا حرفيًا لا أدخله إلى للنوم فقط".

يسلّي أبو صهيب وقته بتبادل الصفّارات مع عصفور ابنه الشهيد صهيب الذي كان محبًا للطيور، لدرجة أنه كان يتركه عصفوره طليقًا، لكن الحديدي اضطر لوضعه في قفص بعد استشهاد ابنه.

أما يحيى فكان محبًا للإلكترونيات، وحلُمَ بأن يصبح طيارًا رغم أنه لم يحظَ بمشاهدة طائرة، ولا مطارٍ في حياته، سوى طائرةٍ حربية قضت عليه وعلى حلمه في آنٍ معًا.

أما عبد الرحمن- كما يروي والده- فكان هادئًا جدًا ومرافقًا لأبيه في كل مكان، وهو بذلك يختلف عن أسامة الذي رغم صغر سنه كان متحدثًا يفوق عمره، يقلّد الشباب ويحب مجاراة أحاديث الكبار.

يغلق عينيه بقوة وهو يتحدث عن زوجته، ثم يقول: "مها كانت سيدة البيت وقائدته، هي من تنظم كل صغيرةٍ وكبيرة، نحن الرجال غالبية وقتنا خارج البيت وهي القائد الفعلي هنا، ورغم انشغالها كانت تواظب على قراءة القرآن وختمته، وأتمّته قبل رمضان بيومين".

طلبت مها من زوجها طاولةً للمطبخ لوضع الحاجيات عليها من أجل التغلب على صغر المساحة، فاصطحبها قبل رمضان لشراء واحدة، ثم أخذها إلى محل ذهب، لكنها رفضت الدخول. يستذكر المشهد بدمعة، ويكمل: "رفضت لأنها فهِمت أنني أريد إهداءها خاتمًا، لكنني أصريت، فاشتريتُ لها واحدًا واستشهدت وهي ترتديه".

أما الصغير عمر، الذي بلغ الآن من العمر عامًا وخمسة أشهر، فقد خرجَ من تحت الأنقاض بكسرٍ في ساقه، وقد احتاج للعلاج لفترة، لكن من حسن حظه أنه كان يتناول الحليب الصناعي كونه لم يتمكن من الرضاعة الطبيعية.

يقول والده: "رغم أنني لا أدّخر جهدًا في رعايته والاهتمام به، ومنحه كل الوقت، لكن الواضح أنه يفتقد أمه. إنه يعاني من نقص في الوزن ولم يظهر له سوى أربعة أسنان، أراجع معه دومًا لدى مؤسسات الرعاية الصحية الخاصة بالأطفال، ولكن أنا محتار ماذا أفعل؟".

يُمضِي الأب معظم الوقت مع طفله عُمَر، وأحيانًا يتركه مع عمته أو أبناء عمه كي لا يظلّ وحيدًا، لكن كما يقول أبوه: "من الواضح أنه يفتقد إخوته رغم صغر سنه. حين أنادي صهيب يتلفت يمينًا ويسارًا ويلوّح لصورته ويبتسم، خاصةً أنه كان آخر العنقود وقد رزقني الله إياه بعد أسامة بـ 6 سنوات، فكانوا كلهم متشوقين لوجود طفل".

كان عمر مدللًا لدى إخوته، فبمجرد أن يبكي كانوا يهرولون نحوه، أما صهيب ويحيى فقد تقاسموا تحضير الرضعة له وإطعامه، والكل يتنافس لحمله والاعتناء له. الآن بات عمر وحيدًا بلا أم ولا إخوة، لأن الاحتلال أراد هذا.

لم تصعد الجدة المصابة بجلطة دماغية حادة منذ عام إلى بيت ابنها أبو صهيب، فهو من كان يحملها لتفطر وتتسحر عندهم، والآن هو ذاته يفطر خارج البيت، وكلما سألته عن صغاره يقول: إنه أرسلهم للسفر خارج البلاد مع أمهم، ولم يبق معه سوى عمر. هي رغم استغرابها لم تكتفِ أبدًا من الدعاء بأن يطمئنه الله عليهم.

يعقب: "لا أعلم إلى متى سنستمرّ في إخفاء الخبر عنها؟ وأخشى من اللحظة التي ستعلم فيها هذا، فصحّتُها لا تتحمل صدمةً بهذا الحجم".

ووجه الحديدي رسالة لكل العالم الذي ينادي بالحرية، وحقوق الإنسان، وحقوق النساء، فقال: "زوجتي قُصفت بالطائرات الحربية مع صغارها. ما ذنبها، وما ذنب طفلي عمر كي يعيش يتيم الأم، محرومًا من إخوته؟".

وأدى العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2021م، إلى استشهاد 232 مدنيًا فلسطينيًا، بينهم 65 طفلًا، و39 سيدة، و17 مسنًا، وإصابة 1900 مواطنة ومواطن، ونزوح 75 ألفًا، وتدمير 1447 وحدة سكنية، و68 مدرسة، و490 منشأة زراعية.

كاريكاتـــــير