غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
لم تكن بتول أبو شاويش، ابنةُ العشرين، تتخيّل أن تصبح آخر خيط يُربط باسم عائلة كانت تضج بالحياة قبل أيام قليلة فقط. فبعد أن دُمّر منزلهم في أبراج عين جالوت بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة مع بداية الحرب، اضطرت الأسرة إلى اللجوء لبيت قديم ومتواضع يعود لأقربائهم، يحاولون إصلاحه بما يستطيعون ليكون ملاذًا هشًّا في وجه القصف المتواصل.
في السادس والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني لعام 2025م، جلست بتول مع والدها ووالدتها وإخوتها الأربعة حول طرد غذائي حصل عليه والدها بشقّ الأنفس. كانت محاولةً صغيرة لاستعادة دفء العائلة وسط عالم يتهاوى. تقول: "كانت دقائق قليلة مفعمة بدفء العائلة، كأنها محاولة صغيرة لمدّ شريان حياة في زمن الحرب، أبيدت في لحظات".

تروي التفاصيل: "انتهيت من مساعدتهم في فتح الطرد، وتوجهت إلى غرفتي الصغيرة في زاوية المنزل بحثًا عن لحظة هدوء. لكن الهدوء لم يمهلني سوى ثوانٍ، وهنا كانت فاجعتي".
اهتزّ البيت فجأة كأنه يُنتزع من أساسه، شعرت بزلزال يجتاح المكان، وبوهج نارٍ يشق الجدران ويبتلع الهواء. في لحظة واحدة انهار كل شيء فوق رؤوسهم. وجدت نفسها محاصرة تحت الركام، عالقة بين قطع الإسمنت والغبار والدم. حاولَت أن تصرخ، أن تتنفس، أن تفهم ما جرى، لكن كل شيء كان ثقيلًا، كما لو أن الموت قد وضع ثقله فوق صدرها.
تقول إنها نادت بصوت مخنوق بالتراب: "حدا يسمعني؟ أنا هنا تحت الركام! أخرجوني من هنا، أنقذوني.. سأموت". كانت تسمع أصوات الجيران، أصوات المسعفين يركضون فوق الأنقاض. سمعت أحدهم يصرخ بأنهم وجدوا شقيقتها الصغيرة، لكن الجملة التالية شقّت قلبها: "أشلاء.. لقيناها أشلاء".
"ارتجف جسدي تحت الركام، لم أعد قادرة على الحركة، أسمع وقع أقدامهم فوقي دون أن ينتبه أحد لوجودي، ولم يبق لدي ما يكفي من القوة لأواصل الصراخ".
تتابع: "ارتجف جسدي تحت الركام، لم أعد قادرة على الحركة، أسمع وقع أقدامهم فوقي دون أن ينتبه أحد لوجودي، ولم يبق لدي ما يكفي من القوة لأواصل الصراخ".
مع ذلك لم تستسلم. واصلت النداء حتى التقط المسعفون صوتها أخيرًا. أزاحوا الحجارة، وسحبوها وهي شبه فاقدة للوعي، مغطاة بالغبار ومصابة، لكنها قادرة على التنفس.. ناجية وحيدة.
داخل سيارة الإسعاف، كانت قدماها تستقران فوق خمس جثامين مغطاة بالبطانيات. اعتقدت أنها تعود لجيران سقطوا في القصف ذاته. سألت عمّها المرتبك الذي كان يرافقها، فأجاب محاولًا أن يخفف عنها: "من الجيران يا بتول".
لكن حين وصلت إلى المشفى بعد ساعات، اكتشفت الحقيقة التي لا يتسع لها قلب بشري: الجثامين الخمسة كانت لوالدتها وإخوتها الأربعة. جميعهم غادروا الحياة. ولم يخرج من تحت الأنقاض سواها.

ولم يتوقف الألم هنا. فوالدها، الذي أصيب إصابات حرجة، ظل يصارع لأيام. كانت تزوره في سريره الأبيض، تمسك بيده وتهمس له بما تبقى لها من قوة. لكنه رحل هو الآخر، تاركًا إياها وحيدة في مواجهة عالم فارغ من كل ما عرفت.
اليوم، تقف بتول أمام أنقاض ذلك البيت الذي جمعهم ذات يوم؛ تستعيد أصواتهم، ضحكاتهم، تفاصيل الطرد الغذائي الذي كان آخر ما جمعهم حول مائدة واحدة. تحاول أن تستوعب أنها الناجية الوحيدة من عائلة مُحيت بالكامل، وأن الحياة بعد هذا الحدث لم تعد تتسع لخطواتها كما كانت.
الجدير بالذكر أنّه منذ بدء وقف النار الأخير في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2025م، سُجّل 373 شهيدًا و970 إصابة، إضافة إلى انتشال 624 جثة من تحت الركام، لتبقى قصة بتول واحدة من آلاف القصص التي تحكي خذلان الهدنة لأصحابها، وتركهم في مواجهة موت لا يتوقف.
























