غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
على الرغم من مرور قرابة شهرين على إعلان وقف إطلاق النار "الهش" في قطاع غزة، ما زالت الدبابات الإسرائيلية تتقدم ليلًا كظلّ ثقيل يزحف بلا صوت. تمتد غربًا ببطء محسوب، تحت غطاء عمليات نسف وإطلاق نار من طائرات "الكواد كابتر" والمدفعية، بينما تُزرع "المكعبات الصفراء" على مقربة من المناطق السكنية، كأنها حدود جديدة تُرسَم خارج كل اتفاق.
هذا التسلل الصامت لا يُعلن رسميًا، لكنه يغيّر الواقع على الأرض، ويدفع آلاف العائلات نحو نزوح لا يبدو أنه سينتهي قريبًا.
"المكعبات الصفراء لم تعد مجرد علامة إسمنتية، بل صارت آخر حدود الأمان. البيت كان خارج الخط في البداية، لكنهم يغيّرون معالم المنطقة. فجأة أصبح الحي كله منطقة ممنوعة".
على أطراف ما يُعرف بـ"الخط الأصفر" شرقي حيّ الشجاعية، كانت سُهى سكر تعيش مع أسرتها في منزل قاوم الدمار طويلًا، قبل أن تنهار آخر خيوط الهدوء المؤقت.
في ليلة واحدة فقط، أجبرهم القصف المدفعي والنسف المتواصل على الهرب مجددًا نحو غربي مدينة غزة. تقول سُهى لـ"نوى": "إن المكعبات الصفراء لم تعد مجرد علامة إسمنتية، بل صارت آخر حدود الأمان. البيت كان خارج الخط في البداية، لكنهم يغيّرون معالم المنطقة. فجأة أصبح الحي كله منطقة ممنوعة".

وترى سُهى في هذه المكعبات هاجسًا يقضم الأمل قضمًا: "كل مكعب يعني سقوط منطقة جديدة وتحويلها إلى عسكرية مغلقة.. خلص ما ضلّ لنا بيت".
قصة سُهى تتقاطع مع شهادة محمد الجماصي، الذي يقيم قرب مقبرة الشعف شرقي المدينة. لم يكن يتخيل أن يستيقظ ليجد المكعب الأصفر وقد انتقل ليوضع أمام منزله مباشرة، كأنه حاجز نهائي بينه وبين حاضره.
يقول: "هذا المكعب يعني أن وجودنا في البيت صار خطرًا علينا جميعًا"، مؤكدًا أن هذه العلامات لم تعد مجرد حدود، بل صارت خطوطًا تُرسَم بالدم وتُحفر في ذاكرة المكان.
في حي التفاح شرقي المدينة، يصف الناطق باسم الدفاع المدني محمود بصل في حديثه لـ"نوى"، مشهدًا يتكرر كل ليلة: "توغلٌ جديد، خطوط تُدفع نحو الغرب، واقتحامات تتخللها نيران كثيفة وعبوات مفخخة تزرع داخل الأحياء. تدمَّر المنازل كما لو كانت أوراقًا خفيفة، وتُسحق البنية التحتية تحت جنازير الدبابات، بينما يسقط شهداء ويُصاب العشرات في كل عملية اقتحام".
ويؤكد المكتب الإعلامي الحكومي أن التوسع الأخير في المنطقة الصفراء وضع عشرات العائلات في حصار مفاجئ، بعد أن غيّر الجيش مواقع المكعبات الخرسانية ووسّع نطاق سيطرته بما يقارب 300 متر في شوارع الشعف والنزاز وبغداد، مانعًا الأهالي من الوصول إلى منازلهم التي لم يبقَ منها سوى الركام.
في قراءة أوسع للمشهد، يوضح الخبير في الشأن العسكري رامي أبو زبيدة لـ"نوى"، أن "الخط الأصفر" ليس مجرد علامة ميدانية، بل أداة لإعادة هندسة السيطرة على القطاع.
"التقدم الذي يجري شرقي غزة، وفي الشجاعية وخان يونس والبريج والمغازي، يتم وفق سياسة زاحفة تتجنب الإعلان الرسمي، بينما تُحرَّك المكعبات خطوة بعد خطوة لتثبيت واقع جديد" يقول.
"الاحتلال يسعى إلى خلق "حدود تشغيلية" تتيح له مراقبة واسعة وقدرة على التحرك، وتنفيذ هجمات محدودة، فيما تُمنع إعادة إعمار المناطق أو عودة الأهالي إليها".
ويضيف: "الاحتلال يسعى إلى خلق "حدود تشغيلية" تتيح له مراقبة واسعة وقدرة على التحرك، وتنفيذ هجمات محدودة، فيما تُمنع إعادة إعمار المناطق أو عودة الأهالي إليها".
ويصف ما يحدث بأنه مرحلة جديدة من الاحتلال الجزئي: مناطق شرقية تتحول إلى أحزمة مراقبة مغلقة، وغرب يتراجع ليصبح خارج السيطرة المباشرة.
هذا التحول -كما يوضح- يحمل آثارًا إنسانية قاسية، تشمل نزوحًا قسريًا، وتدميرًا للمنازل، وغيابًا للبنية التحتية، ومنعًا للعودة إلى الأحياء التي تحولت إلى ساحات مقفلة.
ومع استمرار الزحف الصامت لهذه الحدود، تبقى آلاف العائلات عالقة في دوامة نزوح لا يتوقف. البيوت تبتعد، الذكريات تُسحق مع الحجارة، والخريطة تتغير بينما الناس يدفعون الثمن بأيامهم وحياتهم وأحلامهم. في كل مكعب أصفر، ثمة عائلة تُقتلع من مكانها، وثمة مستقبل يُعاد رسمه خارج إرادة السكان.
























