شبكة نوى، فلسطينيات
اليوم السبت 13 ديسمبر 2025م02:29 بتوقيت القدس

مواطنون يبحثون عن "لقمة عادلة"..

لحمٌ وبيض.. ومسافةٌ من الأمنيات نحو "نقاط البيع" بغزة!

08 ديسمبر 2025 - 10:43

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

أمنيةٌ صغيرة، أشعلت قلب رنا الحسنات نارًا لا تنطفئ. كل صباح، حين يفتح طفلها نور عينيه ويطلب "بيضًا مسلوقًا، أو مقليًا، أو بيضًا بالبندورة"، تتحول هذه الرغبة البسيطة إلى حريقٍ يشتعل. نار تعصر العاجز وتذكّره كل يوم بأن الحياة هنا تُحاصر حتى أبسط تفاصيلها.

فبينما تنتشر صور البيض على مواقع التواصل، وتتناقل الصفحات أماكن توفره في نقاط الاقتصاد في المحافظات كافة، يبقى هذا البيض غائبًا عن العين، غائبًا عن موائد الناس، وكأنه موجود فقط على الشاشات.

تروي رنا: "كلما سمعتُ بخبر وصول البيض إلى إحدى نقاط الاقتصاد، أسرع بكل ما أملك من قوة، أركض كمن ينافس الزمن. أنتظر أن أصل قبل نفاد الكمية. لكنني في كل مرة أصل لأجد النقطة فارغة تمامًا، كأن شيئًا لم يصل من البداية".

الحكاية لا تقف عند البيض. فالمجمدات، من اللحم إلى الدجاج، لم تحصل عليها رنا ولا مرة واحدة منذ بدأت نقاط الاقتصاد العمل. تفتح النقطة بابها ساعة واحدة فقط، وربما أقل، ثم تختفي الكمية بالكامل.

تتساءل رنا بصوت أثقلته المعاناة: "كيف لنا أن نصل إلى حصتنا التي حُرمنا منها لشهور؟ هل علينا أن نشتري من السوق السوداء إلى الأبد؟ وإن كانت الكميات غير متوفرة إلا في نقاط الاقتصاد، فكيف تظهر فجأة في أماكن أخرى بأسعار فلكية لا يقدر عليها المواطن الذي طحنته الحرب؟".

تشعر رنا بأن عدد النقاط قليل جدًا مقارنة بأعداد الأهالي في مواصي خانيونس، وبأن الرقابة غائبة إلى الحد الذي يجعل العدالة حلماً بعيد المنال.

وتزداد الأسئلة والاحتقان على وسائل التواصل، حيث انتشرت دعوات لمقاطعة شراء البيض والمجمدات، احتجاجًا على غياب المساواة في وصولها إلى المستهلكين.

الناشط صالح ساق الله يرى أن ما يواجهه الغزيون اليوم ليس مجرد أزمة سعر، بل امتداد لسنوات مريرة عاشها الناس تحت المجاعة والإبادة.

يقول: "إن المواطن خرج من الحرب منهكًا، ليجد نفسه أمام أسعار لا يمكن احتمالها، تشكل نتيجة "شراكة" بين التجار ووزارة الاقتصاد، إذ تُباع اللحوم والبيض بأسعار تفوق القدرة الشرائية أضعافًا".

ساق الله يدعو إلى موقف حاسم: مقاطعة شاملة للدجاج واللحوم والبيض، باعتبارها الوسيلة الوحيدة -من وجهة نظره- لخفض الأسعار إلى ما يمكن للمواطن تحمله.

الناشط نافذ الشوبكي يذهب في الاتجاه ذاته، عادًا المقاطعة واجبًا جماعيًا، بعد أن أصبح كثيرون عاجزين عن شراء أي من هذه المنتجات منذ شهور.

أما أم أحمد صقر، التي تزاحم صعوبة الشراء وصعوبة الواقع، فتتهكم على أسعار اللحوم والبيض في خانيونس، جنوبي القطاع. تتساءل: "ليش الأسعار أعلى من طاقتنا؟ ولماذا يُصرّ الجميع على البيع بالكاش رغم معرفتهم بإشكالية الدفع والعمولات العالية؟". تؤكد السيدة أن مطلب الناس بسيط: عدالة في السعر ورقابة في البيع.

في الجهة المقابلة، تحاول وزارة الاقتصاد تفسير المشهد. محمد بربخ، القائم بأعمال مدير عام السياسات والتخطيط، يقول إن "قرار بيع المجمدات والبيض عبر نقاط الاقتصاد جاء بسبب شح الكميات الواردة، لتي لا تكفي حاجة السوق".

ويشير إلى أن القطاع يحتاج شهريًا نحو أربعة آلاف طن من المجمدات، يشكل ربعها لحومًا حمراء، والباقي لحوم بيضاء.

ويضيف: "الهدف من النقاط هو الحدّ من التسريب إلى السوق السوداء، لأن الكمية التي تستلمها النقطة محددة ومعلنة بسعر رسمي من الوزارة، إلى جانب وجود طواقم رقابية من حماية المستهلك ومباحث التموين داخل النقاط".

لكن بربخ يعترف بأن ساعات العمل القصيرة للنقاط تعود إلى محدودية الكميات المتوفرة أصلًا. ويؤكد أن الوزارة تتخذ إجراءات عقابية بحق المخالفين، حتى أولئك المرشحين عبر الوزارة نفسها، ملفتًا إلى أن الترشيح يخضع لمعايير مهنية، منها وجود سجل تجاري، ورخص رسمية، وسمعة سابقة، إضافة إلى توفر ثلاجات للحفظ.

"الوزارة حررت أسعار اللحوم الحمراء لوفرتها، فيما منعت استيراد أنواع أخرى لا تتناسب مع المواصفات الفلسطينية".

أما ظهور المجمدات والبيض في السوق السوداء رغم شح الكميات، فيعزوه بربخ إلى عمليات تهريب يقوم بها بعض الموردين عبر إخفاء المجمدات في أماكن خطرة يصعب وصول الرقابة إليها.

ويختم بقوله: "الوزارة حررت أسعار اللحوم الحمراء لوفرتها، فيما منعت استيراد أنواع أخرى لا تتناسب مع المواصفات الفلسطينية".

وفي النهاية، تبقى قصة البيض الذي يحلم به طفل صغير في خيمة جنوبي القطاع، عنوانًا أكبر من مجرد سلعة مفقودة.

إنها حكاية فقدان العدالة قبل فقدان الطعام، حكاية نقاط بيع تُفتح وتُغلَق في دقائق، فيما تنتشر الكميات نفسها في سوق سوداء تلتهم ما تبقى من قدرة الناس على العيش. وبين سؤال رنا وصوت نور، تظل الحقيقة الأكثر مرارة: أن المواطن في غزة يخوض معركته اليومية على لقمة صغيرة.. لا تزال معلّقة بين نقطة اقتصاد ضيقة وسوق سوداء بلا رحمة.

كاريكاتـــــير