غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
في أحد أركان غزة المنهكة، حيث تتراكم الحجارة فوق بعضها ويعبث الغبار برائحة البيوت التي تحولت إلى ركام صامت، وُلدت مبادرة "نحت تحت أسقف مهدومة" استجابة لرغبة مجموعة من الفتيات في تعلم أصول النحت.
تزامن ذلك مع منحة من مركز القطان لدعم المبادرات الشبابية. هناك، بدأت الفنانة مريم صلاح دربها مع مجموعة من الطالبات الجامعيات، محاولة تحويل الركام إلى لغة جديدة تُقرأ باليد قبل العين.
بدأت الورشة بصمتٍ مُثقَل بما لا يقال، صمتٌ يشبه انحناءة روح تحت حملٍ ثقيل. جلست مريم بين الطالبات تصغي لقصصهن كما لو أنها تجمع شظايا قلوب متناثرة. تقول: "قبل أن نمسك الحجر، كان علينا أن نلمس أرواحنا أولًا. كل واحدة منهن كانت تحمل قصة أثقل من المواد التي نستخدمها". كانت الكلمات وحدها كفيلة بأن تكشف حجم الحطام الداخلي الذي تراكم في صدور الفتيات.
لا تنسى مريم تلك اللحظات القاسية التي شابت الورشة. "أصعبها كان انهيار إحدى الطالبات وهي تروي كيف فقدت والدها خلال الإبادة، وكيف كانت تبحث عن سندٍ يشبه صدره الواسع. وأخرى كانت تراقب أمها تتحول إلى جبل من القلق وهموم النزوح، تحاول حماية أسرة تحتاج لكل شيء، بدءًا من سقف يلمّ الشتات وليس انتهاءً بوجبة نجت من ارتفاع الأسعار والدمار".
بعد جلسات البوح الطويلة، انطلقت الورشة نحو العمل الحقيقي. أمام الفتيات أسلاك حديد ملتوية حملتها القذائف، وحجارة اقتُلعت من بيوت سُويت بالأرض، وطين طبيعي جرفته المياه من أراضٍ زراعية أبادتها الصواريخ. ورغم أن الفتيات لم يعتدن بذل مجهود عضلي شاق، إلا أن قلوبهن كانت تحمل تصميمًا حاسمًا أعاد تعريف القوة.
تصف مريم المشهد: "كان الأمر أشبه بمحاولة إعادة بناء ذواتهن. كنت أراهن يمسكن الزردية بصعوبة، يكافحن لتقطيع الحديد وثنيه، وكأن كل حركة لليد على السلك الصلب، تعادل حركة أخرى داخل الروح نفسها". كان كل انحناء لقطعة حديد، وكل ضربة على صخرة، يشبه محاولة ناعمة لترميم ما تهشّم في الداخل.

تشرح صلاح سبب اختيار الركام مادة أساسية للعمل: "كونه المتوفر بكثرة، وهو شاهد حاضر لا يغيب. نقص الأدوات والمواد الخام حاصر الفريق، لكنه فتح الباب لابتكار يستند إلى الفكرة نفسها: النحت وسط الخراب شكل آخر من أشكال المقاومة".
وتزيد مريم: "الركام يمكن إعادة تدويره بعشرات الطرق. كفنانة، أردت استخدامه في المجال الذي أبدع فيه، وأن أقول للعالم إن النفايات والحطام يمكن تحويلها إلى شيء يُضيء بدل أن يُدفن".
كل شيء كان غريبًا في البداية بالنسبة للفتيات. "استغربن كيف يمكن للركام أن يتحول إلى منحوتة فنية"، تضيف مريم: "لكن الدهشة انقلبت سريعًا إلى شغف. كن ينتظرن جلسات العمل وكأنهن ينتظرن ولادة جديدة من بين الأنقاض".
تحولت الورشة إلى مساحة آمنة بالحد الأدنى، مساحة تنفض غبار الخوف لتمنح الفتيات لحظة تنفس. صنعن تماثيل تحكي معاناتهن: حقيبة صغيرة تؤرخ للنزوح المتكرر، سفينة تجسد الأب الغائب، وجوه متعددة تعكس الخوف والصلابة والصراع الداخلي، وأخرى ترمز للأمومة والتضامن والمقاومة. في النهاية أنتجت كل طالبة ثلاث منحوتات، إضافة إلى عمل جماعي كبير بدا كأنه يختزل سيرة الألم نفسها.
واجهت الورشة نقصًا واضحًا في الإمكانيات وارتفاعًا في أسعار المواد. كان على مريم أن تلتقط من البيئة ما يمكن تحويله إلى أداة. استُخدم الطين الطبيعي بدل الصناعي، والركام بدل الصخور، والحديد المتناثر بدل أدوات النحت المهنية. كل شيء حولهن كان شاهدًا ووسيلة في الوقت ذاته.
تؤكد مريم أن نتاج الورشة لم يكن مجرد أعمال فنية، بل وثائق إنسانية حيّة. "أردنا أن يرى العالم معاناتنا كما هي، ليس لنطلب التعاطف، بل لنطالب بحل، لنقول إننا موجودون رغم كل ما حدث".
وتشدد على أهمية توثيق هذه اللحظة من تاريخ غزة: "الفن أحد أهم الأدوات التي يمكن من خلالها التأريخ لهذه الفترة، ونقلها للشعوب الأخرى وللأجيال اللاحقة. كل قطعة فنية هنا قصة، وكل قصة شهادة على حياة نُحتت من الألم".
كل يد امتدت نحو الحطام لم تكن تبحث عن بقايا، بل عن معنى. وكل قطعة فنية خرجت من تحت الغبار كانت بمثابة اعتراف هادئ: "نحن ما زلنا هنا.. نحاول ترميم جراحنا، ونحاول أن نشفي أنفسنا".
كانت الورشة جزءًا من برنامج (رحى) بدعم من مركز القطان، وكأنها فعل "طحن" للذكريات الثقيلة، وتحويلها إلى منتج جمالي ينبض بإصرار مختلف، مقاومة بأدوات بسيطة، لكنها عميقة ومؤثرة.
وعلى منصاته، وصف مركز "القطان" مبادرة "نحت تحت أسقف مهدومة" بأنها تمرين على البقاء: الركام ليس نهاية، بل بداية. الحجارة المكسورة، الحديد الملتوي، الخشب المتفحّم، وحتى الزجاج المتناثر، كلها تحولت إلى منحوتات تحكي قصصًا حقيقية. كل يد امتدت نحو الحطام لم تكن تبحث عن بقايا، بل عن معنى. وكل قطعة فنية خرجت من تحت الغبار كانت بمثابة اعتراف هادئ: "نحن ما زلنا هنا.. نحاول ترميم جراحنا، ونحاول أن نشفي أنفسنا".
























