شبكة نوى، فلسطينيات
اليوم السبت 13 ديسمبر 2025م02:29 بتوقيت القدس

أم الخير.. طفولةٌ تُصرّ على البقاء ولو فوق ركام ملعب!

02 ديسمبر 2025 - 08:56

الضفة الغربية/ شبكة نوى- فلسطينيات:

في خربة أمّ الخير شرقي مسافر يطا، جنوب الخليل، لا يشبه الهواءُ الهواء، ولا تشبه الحياةُ حياة. هناك، حيث تتكثف قسوة المكان تحت ظلال المستوطنات، كان الملعب الترابي التابع للمركز المجتمعي يشبه نافذة صغيرة يتسلل منها الفرح إلى قلوب الأطفال.

لم يكن ذلك المكان مساحةً للّعب فحسب، بل كان المتنفس الوحيد الذي يزيح عن صدورهم ضغط الاعتداءات اليومية، قبل أن تتقدم الجرافات الاستيطانية خلال الأيام الماضية وتردمه بالكامل، في خطوةٍ وصفها أهالي الخربة بأنها "خنق جديد" للحياة في هذا الركن المحاصر.

جود، ابن الثانية عشرة، كان آخر المغادرين للملعب، وأكثرهم التصاقًا بتفاصيله. كان يعرف أن المكان مهدد، لكنه لم يصدق أن لحظة اختفائه ستكون بهذه القسوة.

يقف الآن على التلة الترابية التي خلّفتها الجرافات، يمسح بقدميه أي أثر كان يشير إلى وجود الملعب، ثم يقول بصوت يضيق كصدره: "حين رأيته مردومًا شعرتُ كأنهم اقتلعوا قطعة من صدورنا. لم يعد لنا مكان نلعب فيه. أطفالهم يلعبون كما يشاؤون.. ونحن حتى اللعب محظور علينا".

كانت كلماته تتحرك بين الخسارة والرفض، كأن الطفل يختبر للمرة الأولى معنى أن يُنتزع منه ما يمنحه الحياة.

اليوم، لا يجد سهم ما يوثّقه، فقد تحوّل الملعب الذي شكّل مركز حياة يومية للأطفال في منطقته إلى كومة تراب صامتة، بلا خطوات، ولا ضحكات، ولا كرة تتدحرج.

أما سهم، أحد أكثر الأطفال ارتباطًا بالملعب، فما تزال ذاكرته عالقة عند لحظات الخوف التي رافقت لعبه وأقرانه هناك. يقول: "كان المستوطنون يقتربون منا ونحن نلعب، يطردوننا ويخيفوننا. كنت أخاف أحيانًا حين لا يكون الكبار موجودين، لكننا لم نكن نهرب.. كنّا نلتقط الصور".

اليوم، لا يجد سهم ما يوثّقه، فقد تحوّل الملعب الذي شكّل مركز حياة يومية للأطفال في منطقته إلى كومة تراب صامتة، بلا خطوات، ولا ضحكات، ولا كرة تتدحرج.

سارة، ابنة الثانية عشرة، كانت تلجأ إلى الرسم قرب الملعب لتخفيف توترها من مشاهد الاقتحامات. حين رأت الجرافة تتقدم، شعرت أن الخطر يتجه نحوها مباشرة. تقول: "عندما أرى السلاح أو الجرافات أخشى أن يبدأ إطلاق النار.. أخاف كثيرًا". تشير إلى الأرض المردومة وتضيف بنبرة تحمل ما يفوق عمرها: "حين رأيتهم يردمونه، شعرت أن الدور سيصل إلينا. إذا اختفى الملعب.. ماذا تبقى لنا؟".

تالا، ذات الأعوام الخمسة، لا تفهم تفاصيل الصراع، لكنها تعرف أن شيئًا مهمًا في عالمها الصغير اختفى. تقول بجملة واحدة تختصر معنى الخسارة: "لم يعد هناك مكان نلعب فيه.. أريد أن يعود كل شيء كما كان". في كلماتها البسيطة، تلخيص كامل لطفولة تُختزل يومًا بعد يوم تحت الحصار.

بالنسبة لفهد، ابن السادسة عشرة وحارس مرمى فريق القرية، لم يكن الملعب مجرد مساحة رياضية، بل كان صديقًا يخفف عنه ضيق الحياة اليومية.

يقول: "الملعب كان علاجًا. كان يخفف عنا كل شيء. اليوم لم يتبقّ لنا سوى الشوارع". يشعر فهد أن اختفاء الملعب يعني اختلالًا عميقًا في توازن القرية، كأنهم خسروا شيئًا من قوتها الداخلية.

خليل الهذالين رئيس مجلس قروي خربة أم الخير بمسافر يطا، يرى في ردم الملعب خطوة ضمن سلسلة طويلة تهدف إلى تضييق الخناق على السكان.

يقول: "نحن بلا مدرسة، بلا حضانة، بلا مركز صحي، ووصول الكهرباء والمياه محدود. أمّ الخير محاصرة من كل الجهات. الملعب كان الجهة الوحيدة التي نتنفس منها.. واليوم اختفى". في صوته حسرة لا تخطئها الأذن، كأن القرية تُسلب شيئًا فشيئًا من أبسط حقوقها.

أما المختص بالدعم النفسي علاء الهذالين، فيؤكد أن الملعب كان جزءًا أساسيًا من منظومة العلاج النفسي للأطفال.

يقول: "عشر دقائق من الخوف تحت تهديد مستوطن تُسبّب لهم نكسة كبيرة. الملعب لم يكن للعب فقط، كان مساحة أمان". ينظر إلى الركام ويضيف: "ردم الملعب يعني ردم المساحة الوحيدة التي نحاول ترميم قلوب الأطفال من خلالها".

يقف جود عند أطراف الركام، يحدّق طويلًا، ثم يقول بإصرار يفوق سنّه الصغيرة: "سنعود لنلعب.. حتى لو في وسط الشارع. المهم أن نبقى هنا".

لم يكن الملعب في أمّ الخير مجرد تراب وحجارة، بل كان نافذة تطل منها الطفولة على العالم. ومع ردمه، ضاقت هذه النافذة أكثر، وصار اللعب –وهو أبسط حقوق الطفولة– رفاهية لا يملكها أطفال المنطقة.

مع ذلك، يقف جود عند أطراف الركام، يحدّق طويلًا، ثم يقول بإصرار يفوق سنّه الصغيرة: "سنعود لنلعب.. حتى لو في وسط الشارع. المهم أن نبقى هنا".

تبدو الجملة كأنها إعلان يقاوم الانطفاء: في أمّ الخير، ما تزال الطفولة تُصرّ على البقاء، ولو فوق ركام ملعب.

كاريكاتـــــير