غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
يحدث في غزة أن يُدفن الميت مرتين. هو حدث استثنائي في ظروف استثنائية فرضتها قسوة الواقع الذي خلفته حرب الإبادة الإسرائيلية، التي وضعت قرابة مليونين و200 ألف نسمة داخل شريط ساحلي صغير ومكتظ، في مواجهة الموت وتفاصيله المؤلمة.
هذه حكاية شهيد.. واحدة من غرائب حكايات الحرب. إنه الشهيد محمود عبد الشافي حسين، ويصفه ابن شقيقته محمد حسين بأنه "كان شابًا وسيمًا، وبنيته الجسدية قوية، لكنه عاد إلينا جثة هامدة، مشوهة وممزقة".
"صُعقت عندما رأيت جثمانه. كان مصابًا بعدة أعيرة نارية في الوجه والقلب، وتعرضت جمجمته للتحطيم، ونُزعت عيناه، وكان بلا أسنان".
كان جثمان الشهيد محمود ضمن دفعة من دفعات الجثامين التي سلمتها دولة الاحتلال الإسرائيلي في سياق صفقة التبادل بموجب اتفاق وقف إطلاق النار.
وتعتقد أسرة الشهيد حسين أن الاحتلال أعدمه ميدانيًا، بعدما مارس بحقه تعذيبًا قاسيًا ومروعًا. يقول محمد عن خاله لـ"نوى": "صُعقت عندما رأيت جثمانه. كان مصابًا بعدة أعيرة نارية في الوجه والقلب، وتعرضت جمجمته للتحطيم، ونُزعت عيناه، وكان بلا أسنان".
ومنذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في 10 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، سلّمت دولة الاحتلال على دفعات 330 جثمانًا لشهداء فلسطينيين كانت محتجزة لديها، وذلك عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
لشدة التشويه الذي كانت عليه جثة الشهيد حسين ظنت عائلة في دير البلح أنه نجلها المفقود؛ فتسلمت الجثمان من مجمع ناصر، ودفنته، وأقامت له مراسم عزاء!
ووفقًا لوزارة الصحة، جرى التعرف حتى اللحظة على هوية 97 جثمانًا من قبل ذويهم، فيما لا يزال العدد الأكبر مجهولًا جراء اختفاء ملامح الوجه والجسد كنتيجة للتعذيب والتشويه.
ولشدة التشويه الذي كانت عليه جثة الشهيد حسين، ظنت عائلة في مدينة دير البلح وسط القطاع أنه نجلها المفقود منذ شهور طويلة؛ فتسلمت الجثمان من مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس جنوب القطاع، ودفنته، وأقامت له مراسم عزاء.
وفي حالة غريبة واستثنائية، تعرّف ابن شقيقة الشهيد حسين على جثمان خاله من صور نشرتها وزارة الصحة، ما استدعى استخراج الجثمان. وبعد التحقق منه والتثبت من هويته، تسلمته العائلة وأعادت دفنه في مخيم البريج للاجئين وسط القطاع.

وتشير العلامات على الجثة المشوهة إلى أن الشهيد حسين أُعدم ميدانيًا. ووفقًا لمحمد، فإن الاحتلال أعدم خاله بعيار ناري في الوجه وآخر في القلب، ويرجّح أنه تعرض لتعذيب شديد قبل إعدامه تسبب في تحطيم جمجمته وقلع عينيه وأسنانه.
ويميل محمد إلى هذا الاعتقاد استنادًا إلى ظهور خاله على شاشة القناة 12 الإسرائيلية بعد شهور من اندلاع الحرب، وكان حيًا بكامل وعيه، رغم أنه بدا مصابًا بعيار ناري في ذراعه اليسرى.
وقتلت قوات الاحتلال أغلبية أفراد أسرة الشهيد محمود في غارة جوية دمرت المنزل فوق رؤوسهم في مخيم البريج، وأودت بحياة والده وجميع أشقائه وأطفالهم. فيما نجت والدته رغم إصابتها بجروح بليغة وبتر أحد ساقيها.
ويخبرنا محمد أنه نفسه نجا من المجزرة مع بتر في أحد ساقيه. فيما تتشابه حالة جثمان الشهيد حسين مع حالات جميع جثامين الشهداء التي سلمتها قوات الاحتلال.
"لا يوجد جثمان واحد يخلو من آثار تعذيب شديد أفضى إلى الموت، وهناك مؤشرات قوية على جرائم إعدام ميداني بحق عدد من الشهداء".
ويقول عضو "لجنة إدارة الجثامين" ومختص الأدلة الجنائية سامح حمد لـ"نوى": "لا يوجد جثمان واحد يخلو من آثار تعذيب شديد أفضى إلى الموت، وهناك مؤشرات قوية على جرائم إعدام ميداني بحق عدد من الشهداء".
وبيّنت صور نشرتها وزارة الصحة على موقع "صحتي"، جثامين لشهداء معصوبي الأعين ومكبلين من الخلف، وعظام وأطراف بعضهم مهشمة، وأحدهم التف حبل مشدود حول رقبته، علاوة على جروح غائرة في الوجه والبطن والصدر.
وتتعمد قوات الاحتلال تسليم جثامين الشهداء مشوهة وبلا ملامح، وتحجب بياناتها وهوياتها الشخصية، الأمر الذي يعقد قدرة ذوي المفقودين على التعرف عليها.
ولا يُعرف على وجه الدقة العدد الإجمالي لجثامين الشهداء المحتجزة لدى الاحتلال بعد اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023م. ووفقًا لحمد، فإن البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة والمكتب الإعلامي الحكومي وجهاز الدفاع المدني تشير إلى أن زهاء 10 آلاف مفقود فقدت آثارهم خلال الحرب، ولا يُعرف مصيرهم، ومن بينهم من هم تحت أنقاض المنازل المدمرة، أو محتجزون لدى الاحتلال، أو في مناطق خطرة تحت سيطرته.

وتنصلت دولة الاحتلال من التزاماتها بتسليم البيانات الشخصية لجثامين الشهداء. ويقول حمد: "إن الاحتلال لم يلتزم أيضًا بتسليم اللجنة الدولية للصليب الأحمر جهازًا للفحص الفوري للحمض النووي، وهو جهاز غير متوفر في القطاع، ما أعاق التعرف على الجثامين التي جرى دفن عشرات منها كمجهولة الهوية".
ويفرض هذا الواقع على لجنة إدارة الجثامين انتهاج طرق بدائية في محاولة كشف هوية الجثامين.
وبحسب حمد، يتم تصوير كل جثمان ونشر الصور على شبكة الإنترنت مرفقة بالعلامات الفارقة في الجسد والمرفقات الشخصية، للتسهيل على ذوي الشهداء.
"المئات يأتون يوميًا لمشاهدة الصور على أمل معرفة مصير أبنائهم، إن كانوا من بين الجثامين أو إن كان الأمل في بقائهم على قيد الحياة لا يزال قائمًا".
كما جرى تخصيص قاعة كبيرة في مجمع ناصر الطبي لعرض صور الجثامين أمام ذوي المفقودين. ويضيف حمد: "إن المئات يأتون يوميًا لمشاهدة الصور على أمل معرفة مصير أبنائهم، إن كانوا من بين الجثامين أو إن كان الأمل في بقائهم على قيد الحياة لا يزال قائمًا".
ويتحدث مختص الأدلة الجنائية عن حالة كارثية للجثامين، إذ تبدو عليها آثار تعذيب شديدة وقاسية: تعصيب للعيون، وتكبيل للأيدي والأرجل، وطعنات في الوجه والصدر والرقبة بأدوات حادة، وحروق، وجروح قطعية.
ويشير إلى جثمان شهيد مجهول الهوية وصل وفي رقبته حبل مشدود يوحي بتعرضه للخنق والشنق، وآخر بلا رأس.
























