شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الاربعاء 01 مايو 2024م12:39 بتوقيت القدس

وارتدّت الروح عبر سماعة هاتف: "أنا بخير يمّا"

11 ديسمبر 2023 - 08:12

شبكة نوى، فلسطينيات: "ألو.. يما احنا بخير، طمنيني عنكم" ثم انقطع الاتصال بسبب ضعف الشبكة. لا يهم كم كانت مدّة المكالمة بالنسبة للخمسينية أم عماد، النازحة من مخيم الشاطئ بغزة، المهم أنها سمعت صوت ابنها مع باقي أولادها وبناتها بعد انقطاع التواصل لأكثر من 20 يومًا.

انتهت المكالمة وصارت أم عماد تبكي كل ذكرياتها هناك، احتضنت هاتفها وصارت تصرخ وسط عاصفةٍ من الدموع: "آه يمّا يا قلبي الحمد لله اسمعت صوتك". لقد أعادت تلك المكالمة الخاطفة الحياة لقلب أم عماد الداية، وأثلجت صدرها بالطمأنينة بعد أيامٍ مظلمة عاشتها متعطشةً لسماع خبرٍ أو معرفة معلومةٍ مفيدة.

نجت أم عماد وعائلتها من الموت بأعجوبة، بعدما أمطرت الصواريخ الإسرائيلية منطقة سكناها بالقذائف المدفعية وفرقتها عنهم، فانقطع شمل العائلة، وغابت الأخبار، وفقدت أم عماد الاتصال والتواصل مع أبنائها الثلاثة وأكبرهم عماد، بالإضافة إلى اثنتين من بناتها اللاتي كنّ نازحات عندها في ذلك الوقت.

لم تترك الأم أي بابٍ إلا وطرقته تسأل عن معلومةٍ ولو صغيرةٍ عنهم، حتى جاءتها مكالمة عماد في اليوم الرابع من الهدنة الإنسانية المؤقتة بغزة، لتروي ظمأ روحها، بعد عطش الغياب.

تقول: "عندما انهمرت القذائف على المنطقة في الخامس عشر من أكتوبر الماضي، هربتُ من منزلي مع أولادي. كان القصف جنونيًا، والمشهد مرعبًا. الجميع يصرخون ويبكون، ولا يعرفون إلى أين يذهبون. كأنه يوم القيامة".

حتى ذلك الوقت كانوا جميعًا معًا، لكن، وبعدما قطعوا مسافةً بعيدةً عن المنزل، صادفوا مركبةً أقلتهم إلى حي الزيتون حيث منزل أحد الأقارب هناك.

تستكمل الحكاية فتضيف: "لم نُقم هناك طويلًا، وكأنما الموت كان يتربص بنا. يومان فقط، وبدأت قذائف المدفعية تطال المنازل المجاورة حتى وصلت منزل النزوح الذي كان يؤويني وعائلتي".

كان أحفاد أم عماد خائفون طوال الوقت، "وهذا بيكسر الظهر"، ورغم رفضها فكرة النزوح ثانيةً مع إعلان جيش الاحتلال المنطقة منطقة قتال، إلا أن شعور القهر الذي عاشته تجاه حفيدها كبير، عندما شاهدته يبكي ويرتجف من شدة الفزع، جعلها تعود فتحزم أمتعتها فورًا، وتهرب من جديدٍ إلى جنوب وادي غزة (التي زعم الاحتلال أنها مناطق آمنة).

وتضيف :"في صباح اليوم التالي، مضينا في طريقنا إلى دير البلح، وبينما نحن في الطريق بدأت طائرات الاحتلال بقصف مربعٍ سكنيٍ  كامل قريبٍ جدًا منا، ما جعل كل حيٍ يمضي في طريقه وحده".

في طريقٍ واحدة، أكملت أم عماد نزوحها هلعًا وكان معها أولاد عماد وزوجته فقط، وعندما نظرت وراءها لم تعرف إلى أين ذهب البقية؟! تصف حالها في تلك اللحظات فتقول: "صرت أبكي وأصرخ بأسمائهم، أنادي ولا أجد ردًا. توقّعت أنهم استشهدوا، وبدأت أُهوّن على الأطفال بأن والدهم وأعمامهم وعماتهم سيلحقون بنا، بينما كنتُ من داخلي أُحتضر وأنا التي لا تعرف شيئًا عنهم".

عاشت أم عماد نكبة جديدة، وفق ما شرحت، وزادت: "مشينا قرابة ٦ كيلومترات، وتذكرت التغريبة الفلسطينية، وما حدثتنا به أمي عنها، وكيف تركوا بلداتهم. كنا نحسب أن تلك الأحداث تحصل مرةً في تاريخ الشعوب لكننا عشناها بحذافيرها على يد نفس العدو، وبنفس الوحشية".

نزحت أم عماد مع أحفادها وكنتها، لخيمة في ساحات مشفى شهداء الأقصى، لكنها لم تتجرع ألم غياب أبنائها عنها في أقسى ظروفها، حيث أوضاع النزوح فائقة الصعوبة، التي تفتقد لكافة مقومات الحياة، من الماء والطعام.

تردف بالقول: "نارٌ في قلبي شوقًا وخوفًا، وفي الوقت ذاته، مطلوب مني أن أقول بدور الجدة والأب والأم، فأصحو قبل الفجر لأبدأ رحلة البحث عن الماء، والطعام، وشحن الهواتف، ونار الطهي، ورعاية الأحفاد".

وبينما هي تتحدث، سمع أحد أحفادها اسم أبيه، فصار يبكي ويردد "أريد بابا"، مما جعلها تجهش معه ببكاءٍ حار. وتواصل: "يا ليتني ما طلعت من بيتي. يا ليت ضليت معهم، يا بنعيش سوا، يا بنموت سوا".

أصعب فترةٍ عاشتها أم عماد خلال الحرب، كانت عندما انقطع الاتصال تمامًا عن قطاع غزة. لقد خُيِّل لها أنها ستموت هي أو أحد أبنائها دون أن يدري بهم أحد".

حتى هذه اللحظة، تسترق أم عماد الجلوس بين خيام الصحافيين بباحات مستشفى الأقصى، لعلها تعرف شيئًا عن أخبار منطقتي الشاطئ والزيتون، والمنطقة التي افترقت عن أبنائها فيها، وفي كل مرةٍ تصل فيها أخبار مجازر يرتعد قلبها خوفًا.

تعيش أم عماد اليوم في دير البلح، وقد عرفت من الاتصال الأخير أن أبناءها عادوا للزيتون بعدما فرقهم القصف. هي اليوم في منطقة جنوب الوادي، لا تستطيع الذهاب إليهم ولاهم يستطيعون المجيء إليها، كل ما يمكنها فعله الدعاء، والبكاء فقط.

اخبار ذات صلة
كاريكاتـــــير