شبكة نوى، فلسطينيات: رفح- رشا أبو جلال
تقف الطفلة تالا إسماعيل (١٢ عامًا) على ناصيةٍ في سوق رفح جنوبي قطاع غزة، تنادي بأعلى صوتها "علبة التونة بأربعة شيكل، وعلبة الفول بثلاثة"، لكن بالكاد يصل صوتها الرفيع إلى مسامع الناس وسط ضجيج حركة السوق والعربات، وأسواق البائعين الآخرين.
قبل بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من تشرين أول/أكتوبر الماضي، كانت تالا تدرب نفسها على إلقاء أبياتٍ من الشعر أمام منصة الإذاعة المدرسية في مدرستها بمدينة غزة، حيث كانت تقيم مع عائلتها قبل أن تنزح قسرًا إلى رفح خلال الحرب.
غيرت الحرب من اهتمامات تالا كثيرًا، بعد أن حولت والدها الذي يعمل موظفًا حكوميًا إلى عاطلٍ عن العمل، بسبب عدم صرف أي رواتب له منذ أكثر من خمسين يومًا.
تقول لـ"نوى": "قررت مساعدة والدي في بيع ما لا نحتاجه من مواد غذائية نستلمها من مدرسة الوكالة التي نزحنا إليها". وتضيف: "نبيع ما لا يلزمنا من مواد غذائية لشراء ما يلزمنا من ملابس مع دخول فصل الشتاء".
تستذكر "تالا" حياتها في غزة قبل الحرب فتخبرنا: "كنا نعيش في سلام، في شقةٍ سكنيةٍ مستقلة، داخل عمارة تعود لعائلتنا. كنت أحضّرُ لمبارزةٍ شعرية أمام زميلتي في مدرستي، لقد رصدت المديرة جائزة قيّمةً للفائزة".
تصمت قليلًا قبل أن تتابع بنبرة قهر: "كل ذلك أصبح من الماضي، فمنزلنا دُمِّر بالكامل، وهربنا من حيث نسكن، وشاهدتُ صورًا لدبابات إسرائيلية داخل مدرستي. واليوم ها أنا هنا أبيع معلبات الفول والسردين والجبنة للمارة".
مثل تالا الكثير من الأطفال الذين باتوا جزءًا من سوق العمل، بعد أن وضعت الحرب مستقبلهم في طريق المجهول. أصبح هؤلاء الأطفال يساعدون أسرهم في الحصول على المال من خلال العمل، بسبب فقدان المعيل الرئيس عمله، ونزوح العائلات إلى أماكن أخرى بعيدًا عن مساكنهم.
ويعمل الطفل محمد السلطان الذي نزح مع عائلته من بلدة بيت لاهيا شمالي قطاع غزة إلى مدينة رفح، في بيع بعض الحلوى كالمصاص في سوق رفح.
يقول محمد وهو طالب في الصف الخامس الابتدائي: "كان والدي يعمل مزارعًا في بيت لاهيا، يزرع الخضروات ويجني ربحًا جيدًا، لكن الحرب دمرت كافة مزارعنا".
ويضيف: "بعد أن فقد والدي عمله، ونزحنا إلى النصيرات ثم إلى رفح، لم نعد نملك أي أموال، لذلك طلب مني والدي الوقوف أمام هذه البسطة البسيطة، وبيع ما عليها للناس".
نمت لدى محمد خبرة بسيطة في أساليب التجارة، إذ يخبرنا أنه يشتري علبة مصاص الأطفال التي تحتوي على ٢٤ قطعة بثمن ١٤ شيكلًا، ثم يبيع كل قطعة منفصلة بشيكل واحد، محققًا بذلك ربحًا يبلغ عشرة شواكل عند بيع العلبة بأكملها.
ويكمل: "لا آخذ وقتًا طويلًا في بيع العلبة، بل تُباع معي بسرعة بسبب نفاد أصناف الحلوى والمسليات الأخرى من السوق، كالشيبس والعصائر وغيرها".
في آخر النهار يذهب محمد إلى باعة المعلبات مثل الطفلة تالا، لشراء معلبات التونة والجبن من الأرباح التي جناها خلال بيعه.
ويزيد: "إن ما تصرفه مدرسة الوكالة التي نقيم فيها لعائلتي المكونة من ٩ أفراد من مواد غذائية، لا يكفي لسد جوعنا".
في بعض الأحيان تكون ممارسة التجارة بين الأطفال فقط لإشغال الوقت، مثل الطفل يزن مراد، الذي نزح مع عائلته إلى مدينة رفح، يقول ابن الـ(14 ربيعًا) لـ"نوى": "كنت في غزة أشغل وقتي بممارسة كرة القدم، فكنت منتسبًا إلى نادي الصداقة غربي المدينة، الذي أصبح كومة ركام الآن بعدما دمرته الدبابات الإسرائيلية".
وكان يزن ينتسب أيضًا لمركزٍ تعليمي يمنح دروسًا في اللغة الإنجليزية، التي يقول إنه يحب التحدث بها.
وأضاف: "بعد أن أفقدتني الحرب حياتي في بيتي ومدينتي، وبات وقتي فارغًا في مدارس الوكالة في رفح حيث أعيش الآن، قررتُ شراء بعض الجوارب والقبعات الصوفية الشتوية، وبيعها في سوق المدينة".
وأوضح أنه اختار التجارة في هذه السلع، نظرًا لازدياد حاجة الناس إليها خاصةً مع دخول فصل الشتاء.
وقال: "كل يوم يرتفع ثمن الملابس الشتوية أكثر بسبب كثرة الطلب وقلة المتوفر منها. أعتقد أننا سنصل قريبًا إلى يومٍ لا يتوفر فيه أي ملابس شتوية. هذا الأمر بدأ فعلًا في الأغطية الثقيلة، إذ لا يتوفر في سوق رفح الآن أي غطاء ثقيل (حرام أو لحاف)".
ويُعدُّ الأطفال ضحيةً رئيسية في هذه الحرب الإسرائيلية المدمرة التي استهدفت قطاع غزة، فبحسب منظمة اليونيسف التابعة للأمم المتحدة، فإن أكثر من 5300 طفل فلسطيني قتلوا منذ بدء الحرب وهم يمثلون 40% من الشهداء في غزة.
وأشارت المنظمة إلى أن نصف عدد سكان قطاع غزة من الأطفال أصبحوا نازحين بسبب القصف والمعارك، وأن نحو مليون طفل في قطاع غزة، يعانون من انعدام الأمن الغذائي.