شبكة نوى، فلسطينيات: أحلام حماد غزة-نوى/فلسطينيات
في غرفةٍ صفيةٍ صغيرة، وبالقليل من الفراش والأغطية التي لا تقي البرد القارس في مركز إيواء داخل مدرسةٍ حكوميةٍ بمدينة رفح جنوبي قطاع غزة، يقيم الممرض محمود بردع وزوجته الممرضة وأطفاله الأربعة.
لقد اضطر قبل نحو أسبوعين، إلى النزوح من مستشفى الرنتيسي بمدينة غزة، بعد أن قرر التطوع وزوجته في في المستشفى المختص بالأورام وسرطان الأطفال، والانتقال للإقامة بأطفالهما في المستشفى، هربًا من حمم الصواريخ والقذائف التي انهمرت على مخيم الشاطئ للاجئين غربي مدينة غزة، حيث تقيم الأسرة في منزلٍ مُستأجر.
إلى مدرسة القدس الحكومية في مدينة رفح، لجأ محمود وأسرته برفقة أطباء وممرضين نزحوا مع أسرهم، بعدما قضوا أيامًا عصيبة داخل مستشفى الرنتيسي، حيث أطبق الاحتلال حصاره هناك بالدبابات والآليات العسكرية، تزامنًا مع قصف جوي ومدفعي في محيط المستشفى، ألحق بها أضرارًا مادية، فيما تسببت الشظايا المتناثرة في إصابة ثماني مصابين أصلًا داخل غرف وأقسام المستشفى.
ثلاثة أيام من الحصار والغارات الجوية والقصف المدفعي، والتهديدات الإسرائيلية للطواقم الطبية والمرضى والجرحى، انتهت بإخلاء المستشفى بتدخل اللجنة الدولية للصليب الأحمر. يخبرنا محمود: "أجبرنا على إخلاء المستشفى، بعدما رفضنا ذلك لأيام دون المرضى والجرحى، ونحو 2000 نازح من المدنيين الذين كانوا يحتمون بالمستشفى.
ويصف الممرض الثلاثيني أيام الحصار الثلاثة داخل المستشفى، بأنها الأصعب والأشد رعبًا في حياته، ويقول: "نقيم في المستشفى منذ اليوم الأول للحرب، وقد تطوعت وزوجتي كممرضين هناك، وخرجنا منه مجبرين بعد توغل الدبابات وفرض حصار خانق حوله بالتزامن مع تساقط القذائف، ورائحة الموت التي كانت تفوح في كل مكان".
استشعر محمود (35 عامًا) وزوجته الخطر مبكرًا، جرّاء حدة الغارات الجوية الإسرائيلية المترافقة مع قصف بري وبحري، والمتزامنة مع تحرك الدبابات والآليات العسكرية تحت غطاء كثيف من النيران عبر محاور عدة، أحدها وأعنفها كان محور الشمال الغربي لمدينة غزة، وصولًا إلى مخيم الشاطئ، الذي كان محمود قد غادره بأسرته تحسبًا من هذه اللحظة.
قبيل حصار المستشفى تلقت إدارته كغيرها من مستشفيات مدينة غزة وشمال القطاع، إنذارات إسرائيلية عبر الاتصالات الهاتفية، بضرورة إخلائه، ومع التوغل الإسرائيلي برًا من شمال القطاع نحو مدينة غزة، كان هذا المستشفى المجاور لمستشفيات أخرى في حي النصر، هدفاً للاحتلال بالحصار والاستهداف المباشر.
يضيف محمود: "الحركة من قسم لقسم ومن مبنى لآخر داخل أسوار المستشفى كانت مهمة غير سهلة، ومحفوفة بالكثير من المخاطر في ظل إطلاق النار من مسيرات إسرائيلية تحلق في الأجواء على مدار اللحظة".
ويستحضر مشهدًا مؤلمًا يقول إنه سيبقى محفورًا في ذاكرته لبقية حياته، عندما أصيب طفل من النازحين بنيران الاحتلال خلال محاولته تعبئة زجاجة صغيرة بمياه للشرب، فسارع شقيقه لنجدته فأصيب هو الآخر وسقط إلى جواره، وكذلك حدث مع والدهما، قبل أن يُظهر مسعفٌ شجاعةً عالية، وينجح في إجلائهم وإنقاذهم من موتٍ محقق.
أيامٌ من الرعب قضاها محمد وأسرته مع آلافٍ آخرين من الطواقم الطبية والمرضى والجرحى والنازحين في مستشفى الرنتيسي، حيث كان الموت قريبًا منهم للغاية، ليس فقط جراء الصواريخ والقذائف، وإنما جوعًا وعطشًا، حتى أنهم اضطروا إلى خلط المياه المالحة بمياه طبية تستخدم في عمليات غسيل الكلى من أجل التخفيف من ملوحتها واستخدامها للشرب، بينما كانت حبات قليلة من التمر يوميًا هي الوجبة الأساسية.
وبعد إجبارهم على إخلاء المستشفى، اختار محمود مرافقة صديقه رئيس قسم التمريض بالمستشفى الدكتور محمد ماضي، والنزوح إلى مدينة رفح، ورغم هذه التجربة المريرة إلا أن هذين الصديقين ومعهما زملاء آخرين قرروا مواصلة أداء رسالتهم الطبية الإنسانية، وتقديم الرعاية الطبية للنازحين.
وحوّل هؤلاء غرفةً صغيرةً كانت تُستخدم كمطبخٍ مدرسيٍ لعيادة، تقدم خدمات رعاية طبية أولية لآلاف النازحين في المدرسة، يتابع محمود: "إن أفراد طواقم مستشفى الرنتيسي الذين نزحوا إلى مدينة رفح، اتفقوا فيما بينهم على توزيع أنفسهم على مراكز إيواء داخل مدارس حكومية، لا تتلقى خدمات ومساعدات من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، للتخفيف عن كاهل مستشفى أبو يوسف النجار الوحيد في المدينة، عبر تقديم الرعاية الأولية للمرضى من النازحين".
وبأقل الإمكانيات يتعامل أطباء وممرضو "الرنتيسي" يوميًا مع عشرات الحالات. يزيد: "الغرفة صغيرة للغاية وغير مؤهلة كعيادة طبية، ولا تحتوي إلا على القليل جدًا من الأدوية والمستلزمات الطبية، وبحاجة إلى الكثير من أجل تقديم رعاية أفضل للنازحين داخل المدرسة.
وبينما كان الدكتور ماضي منشغلًا في فحص طفلٍ نازحٍ مع أسرته من مناطق شرقي مدينة رفح المتاخمة للسياج الأمني الإسرائيلي، قال: "إن غالبية الحالات المرضية تعاني من النزلات المعوية والتهابات الصدر، والأمراض الجلدية كالجرب والجدري، وكلها ناجمة عن الازدحام الشديد، وتدني مستوى النظافة، وانعدام المياه الصالحة للشرب، وعدم توفر مرافق مؤهلة داخل مراكز الإيواء في المدارس لاستقبال هذه الأعداد الكبيرة من النازحين، وجلهم من الأطفال والنساء وكبار السن".
وبدعابةٍ تميز علاقتهما، قال الدكتور ماضي إن "محمود ممرض شاطر، ومدبر منزل شاطر كمان"، ملفتًا إلى انشغاله طوال اليوم بين النقطة الطبية، وتدبير شؤون أسرته وأطفاله، وتوفير احتياجاتهم بما هو متاح، في ظل أزماتٍ مركبة ومعقدة تعصف بحياة النازحين في مراكز الإيواء.
ويستيقظ محمود مبكرًا، ويشعل النار باستخدام المتوفر لديه من حطب وكرتون، فيعد الطعام ومشروبًا ساخنًا لأطفاله (أكبرهم في التاسعة من عمره، وأصغرهم رضيع لم يتجاوز العام)، ثم يبدأ عمله داخل النقطة الطبية بتفانٍ. هذه القدرة هي التي مكنته بمساعدة زملائه من استخراج رصاصةٍ من جريح أصيب بها في غزة، ولم تتح له فرصة العلاج، فنزح إلى رفح، ليعالجه محمود هناك بأدوات وإمكانيات متواضعة للغاية.
وتقدر منظمات أهلية ودولية أعداد النازحين جراء الحرب بنحو مليون و600 ألف نسمة، تقول "اونروا" إن مليونًا و50 ألف منهم يقيمون في مراكز الإيواء داخل مدارسها ومرافقها، في ظل ظروفٍ إنسانيةٍ متدهورة، واكتظاظٍ شديدٍ يُنذر بتفشي أمراض وأوبئة أخطرها الكوليرا.