شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الجمعة 29 مارس 2024م15:18 بتوقيت القدس

غزة.. عن حياة يشيب فيها رأس الشباب

30 اكتوبر 2020 - 16:16

غزة:

كلّ صباح، يصحو فارس من نومه، يغسل وجهه ويركب دراجته الهوائية ثم يطير نحو البحر، فليس أمامه سوى البحر بعد ليلة كان يعدّ الدقائق فيها لتمرّ، ليلة معتمة لا كهرباء فيها ولا نسمة هواء باردة، فقط صوت طائرات الاستطلاع الإسرائيلية "الزنانة" الذي يحوم كالذباب فوق رؤوس الفلسطينيين في قطاع غزّة.

"ربّما هدير البحر يغطي على صوتها قليلاً؟" يتساءل فارس حمودة ٢٣ عاماً، ثم يجيب نفسه "أهرب من الزنانة إلى البحر، أراقب زوارق الاحتلال وأسمع صوت إطلاق نيرانها كلما راق للجنود فعل ذلك"، فهذا الاحتلال لا يفوّت أدنى فرصة لقتل الناس هنا والسعي لإطفاء أرواحهم، وهل الروح تنطفئ؟ نعم الاحتلال يطفئ أرواح الفلسطينيين في كلّ آن.

حصل الشاب على شهادة الثانوية العامة قبل ست سنوات بمعدّل ٦٥٪، لم يلتحق بالجامعة بسبب دخل والده الشهري الذي لا يتجاوز ١٢٠٠ شيكلاً/350 دولارًا، وهو ما بالكاد يلبي احتياجات أسرته المكوّنة من ١١ شخصاً.

فارس:هذا الاحتلال لا يفوّت أدنى فرصة لقتل الناس هنا والسعي لإطفاء أرواحهم

ويتابع أن أول عمل له ما بعد تخرجه من المدرسة، كان عاملاً في ورشة حدادة قصفت في إحدى العدوانات على القطاع، ثمّ عاملاً في مصنع للبلاستيك لم يستطع الإكمال به لعدم تحديد ساعات العمل مقابل أجور زهيدة تُدفع للعاملين فيه لا تتجاوز الـ ٥٠٠ شيكل شهريًا، ثم عامل في البناء، ثم "حارس" لإحدى العمارات، حيث لم يكمل بأي واحد منها إما لقلة الأجر أو اكتفاء المشغلين بأعداد قليلة.

"الاحتلال أولاً، الاحتلال ثانياً وثالثاً وحكومتي غزة ورام الله رابعاً وخامساً" يختصر فارس أسباب انضمامه لصفوف البطالة، وحكاية الفقر التي جعلت منه ومن الشباب "وقود" لكلّ معارك الموت الدائرة في غزّة.

ريم داوود شابة أخرى درست بكالوريوس "تكنولوجيا المعلومات" وتخرّجت قبل خمس سنوات، لم تحصل في حياتها سوى على عقدي عمل مؤقت لمدّة ثلاثة أشهر، براتب ١٥٠٠ شيكلاً، تقول إنها يوم استلامه كانت تعدّ راتبها أكثر من ٢٠ مرة، تشمّ رائحته تتحسسه في كلّ صباح، "فأنا محظوظة، حصلت على قيمة راتب تعادل قيمة والدي الذي يعمل منذ ١٠ سنوات كنادل في مطعم!"- تضيف -.

بخلاف ما بعد فترة العمل المؤقت وعودتها إلى المنزل، تخبرنا أن حياتها تعود لسابق عهدها، لا تنام بالليل من شدّة الأرق والتفكير، وعند بزوغ الشمس تمدّ يدها للسّماء وتدعو "أتمنى لو كانت حياتنا كابوساً نستيقظ منه قريباً".

ريم: الموت أن تجعلك ظروف بلدك عالة عليها، أن تتجاوزي الـ ٢٥ عاماً وأنتِ بلا عمل، ألا تملكين أجرة مواصلات تأخذك لأي مكان

عندما تستيقظ ريم قصّة أخرى، تلمسّ أي شيء حولها للتأكد من أنها على قيد الحياة، حتى تصرخ شقيقتها بجانبها قائلة "دعيني أكمل نومي، لماذا تلمسيني! لست ميتة أنا نائمة، أنا نائمة"، كلمة الموت تمرّ على الشابة يومياً، فما الموت بالنسبة لها؟ "أن تجعلك ظروف بلدك عالة عليها، أن تتجاوزي الـ ٢٥ عاماً وأنتِ بلا عمل، ألا تملكين أجرة مواصلات تأخذك لأي مكان يمكن أن تتنفسين به! البحر مثلاً!" تجيب.

وفي قصّة شاب ثالث، "الشهادة في هذه البلاد يعني تبلها وتشرب ميّتها" عبارة يردّدها محمد نصر باستمرار لكلّ خريج أو خريجة جامعة حديث، محمد الذي أخذ يخبرنا أنه وصل لدرجة "يكلم نفسه بصوت عالي" بين حشد من الناس يظنون أنه "مختل عقلي".

محمد :ليس من السهل على شاب "نحت في الصخر"  ليتخرّج بمعدل امتياز يجد نفسه يومياً يرمي حصاة بؤسه في البحر

فليس من السهل على شاب "نحت في الصخر" وفق وصفه، ليتخرّج بمعدل امتياز من تخصص المحاسبة، يجد نفسه يومياً يرمي حصاة بؤسه في البحر، يتأمل الأمواج ويعدّها موجة موجة ثم يسأل نفسه "متى ستقوم الحرب وتقتلنا وتخلصنا من هذه الحياة؟".

في الوقت ذاته لا يخفي محمد خوفه من الموت، يحرص على البقاء حياً ويختبئ في منزله الذي يظن أنه في مأمن من صواريخ الاحتلال التي تصوّب حتى ضد الأطفال في أحشاء أمهاتهم، ويكره الحياة أيضاً، يقول "تركض الحرب خلفنا، لا عمل يشغلنا عن التفكير بها، ننتظر مرورها فوق أجسادنا ونرتعب حين يخيل لنا ذلك، فأي حياة هذه التي نعيش؟".

هكذا هي حياة الشباب في غزّة، يشيب شعر رؤوسهم بينما هم جالسون يحدّقون بأمواج البحر، فلا عمل لديهم ذلك، يتأملون الموج وترصدهم طائرات الاحتلال من السّماء لتحدّد موعد الهجمة اللاحقة – كما عوّدتهم -، فلا حياة في القطاع سوى حياة الحصار والفقر والبطالة والموت والانتظار، انتظار الموت بأشكاله المختلفة حين يقرر الاحتلال ذلك.

كاريكاتـــــير