غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
في أحد أيام النزوح المتكرر من مدينة بيت لاهيا، شمالي قطاع غزة، بالكاد تمكّن خميس غبن من التقاط أنفاسه، بينما كان يحمّل بعض الأثاث والمستلزمات على ظهر حماره.
طلب من أبنائه أن يسيروا على أقدامهم، "فالحمار لن يحتمل أن يحمل هذا الثقل كله" يقول لـ"نوى".
حين وصل غبن إلى خيمته قرب مستشفى الشفاء، نظر إلى حماره بحنو وهمس: "أنا ممتن له، لولاه ما كنت نجوت بهذه الحمولة".
في حربٍ سلبت كل شيء، لم ينجُ أحد، حتى الحمير التي تقاسَم أهل غزة معها طعامهم القليل وألمهم الكثير. يخبرنا "أبو رامي": "الرصاص كان يصيب كل شيء يتحرك، والكثير من دوابنا فقدناها، إما بالقتل أو وسط دوامة النزوح وفاجعته المفاجئة".
نجا حماره أكثر من مرة، لكنه أصيب بشظية في ظهره، وظل شهورًا يتلقى العلاج. "كنت أشتري له الدواء والإبر والمطهرات، لكنه لم يعد كما كان، فقلة الطعام أنهكته"، يضيف، ويتابع بأسى: "أُطعمه العدس والفريكة، وأتمنى أن أجد له بعض التبن ليستعيد قوته. الشعير أصبح توفيره من المستحيلات، وكيس التبن بـ (370) شيقلًا، ولا يكفي لأكثر من خمسة أيام".
في ركنٍ آخر، تحديدًا في منطقة يسميها السكان بـ"الشواهين"، كانت "أم معتز" تخصص غرفة في حاكورتها لحمار ابنها، ترعاه كأحد أبنائها.
توضح أنهم يعتمدون عليه منذ عشرين عامًا في العمل والتنقل. حين اضطرت العائلة للنزوح جنوبًا، تركوا الحمار تحت رعاية جارهم الذي بقي في المكان. لكن مع اقتراب الاحتلال من منطقة الصفطاوي، فر الجار وترك الحمار خلفه، دون أن يعرف مصيره.
تتابع: "كنت أعود كلما سنحت لي الفرصة لأبحث عنه، لكن بلا أثر. الناس تحدثت عن سرقة الاحتلال للحمير، ربما نُقل، لا أعلم، لكنه لم يعتد الابتعاد عن مكانه قط".
أما مصطفى، الذي افترش الأرض في وسط مدينة غزة، فكان حماره يقف متكئًا على جدار ما زال صامدًا وسط ركام البيوت. تظهر على جسد الحمار النحيل بقع بسبب مرض جلدي. يمدّ رأسه نحو الشمس كأنه يبحث عن شيء ضائع.
قبل الحرب بعام، اشتراه مصطفى صغيرًا كمصدر رزق، لكنه سرعان ما أصبح الرفيق الأوفى خلال الحرب. يقول: "كان ينقلنا من مكان إلى آخر، حمّالًا لما تبقى لنا".
"أحتفظ به للمواصلات الخاصة بي وبعائلتي، منتظرًا نهاية الحرب لعل الطعام يعود ويستعيد حماري عافيته".
اليوم (والحديث للرجل) لم يعد قادرًا على العمل، "لكنني أحتفظ به للمواصلات الخاصة بي وبعائلتي، منتظرًا نهاية الحرب لعل الطعام يعود ويستعيد حماري عافيته".
قصة حمير غزة لا تنتهي عند الفقد والجوع، بل تتجاوزها إلى ما هو أكثر مرارة: السرقة. ففي روايات متكررة من سكان المناطق الحدودية، تحدثوا عن قيام قوات الاحتلال بسرقة الحمير من الطرقات والمزارع، بحجة "إنقاذها" أو لأنها "مريضة" أو "مهملة"، ثم، وبمساعدة جمعية إسرائيلية تُدعى "لنبدأ من جديد"، جرى إرسال هذه الحمير إلى فرنسا، في محاولة لتجميل صورة الاحتلال كمنقذ حتى في زمن المجازر.
هذه المفارقة الساخرة دفعت المخرج الفلسطيني مصطفى النبيه لتوثيق العلاقة الإنسانية التي نشأت بين الناس ودوابهم خلال الحرب، في فيلم. الفكرة جاءت بعد أن لاحظ، خلال نزوحه إلى الجنوب، ارتباطًا عاطفيًا قويًا بين حمار وحمارة في المخيم، لكن حين اضطر أصحابها لإطعامها المعلبات، ماتت، ليبقى الحمار بعدها في حزن واضح.
يحكي النبيه: "كان بكاء صاحب الحمارة وهو يودعها مؤثرًا جدًا".
"أقل حمار عاش معنا الاستهداف، النزوح، الجوع، والفقد. أكل من طعامنا، وأكلنا من طعامه، تقاسمنا المكان والمعاناة".
ومع تتبعه لحياة الحمير خلال رحلة النزوح وحتى العودة، راوده شعور بأن هذه المخلوقات تستحق التكريم. "أقل حمار عاش معنا الاستهداف، النزوح، الجوع، والفقد. أكل من طعامنا، وأكلنا من طعامه، تقاسمنا المكان والمعاناة"، يعلق النبيه.
وعن الفيلم، يضيف: "من خلال الحمار، تحدثنا عن كل وجع الحرب، عن النزوح والطوابير، والمياه والطاقة، والطعام غير المناسب. أردنا أن نوصل للعالم سؤالًا واضحًا مركزيًا: إن لم تلمسكم معاناتنا كبشر، فهل ستحرككم معاناة الحمير؟".