شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم السبت 27 سبتمبر 2025م02:38 بتوقيت القدس

إسماعيل أبو حطب وآخر حديثٍ قبل أن يستشهد.. لـ"نوى"

"ما بين السماء والبحر" بدأ في "الباقة".. وهناك انتهى!

02 يوليو 2025 - 16:27

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

لم يكن صوت إسماعيل أبو حطب غريبًا في زحام الضجيج داخل مقهى "الباقة" على شاطئ بحر غزة. كان واحدًا من نغمه اليومي.

كان آخر صوتٍ يسجّله المشهد قبل كلمة النهاية، إسماعيل ينادي زميلته فرانس السالمي، رفيقته في المهنة والحلم: "فرانس.. فرانس.. معك كاش؟"، لكن الوقت لم يسعفها كي ترد، ولم يسعفه هو حتى ليصمت بإرادته.

اتخذ إسماعيل من "الباقة" مقرًا مؤقتًا لعمله بعد أن دُمرت شركته الخاصة "C light" ومنزله، بصواريخ إسرائيلية، خلال عدوانٍ لا يرحم الأحلام ولا التفاصيل.

ارتقى إسماعيل شهيدًا، مع أكثر من عشرين آخرين، عندما قصف الاحتلال مقهى "الباقة"، في مجزرة لم تترك حتى فناجين القهوة بسلام.

في الثالث من يوليو/ تموز 2025، كان يفترض أن يُفتتح معرض إسماعيل الجديد "ما بين السماء والبحر" في مدينة شيكاغو الأميركية، عن بُعد، كما فعل من قبل. لكن الموت كان أقرب من الموعد. قبل ثلاثة أيام فقط من موعده مع الفرح، ارتقى إسماعيل شهيدًا، مع أكثر من عشرين آخرين، عندما قصف الاحتلال مقهى "الباقة"، في مجزرة لم تترك حتى فناجين القهوة بسلام.

مقابلةٌ عفوية، أجرتها "نوى" مع إسماعيل في نفس المكان: الباقة، قبل أن يستشهد بأيام؛ ليحدثها عن المعرض والأحلام والحرب التي لا تنتهي. بدا فخورًا مترقبًا لمعرضه القريب في شيكاغو، والقادم في لندن بعده بشهر، وكأنه يحاول اللحاق بكل ما يمكن من الحياة، قبل أن تُغلق الأبواب فجأة.

عندما اندلعت حرب الإبادة في غزة، حمل إسماعيل كاميرته فورًا. لم يكن ممكنًا أن يتأخر عن واجبه، كما قال مرارًا. أصيب في نوفمبر 2023م خلال تغطيته لقصف برج الغفري. شُلت قدمه اليسرى، ونُقل إلى مستشفى الشفاء للعلاج.

لاحقًا، مع اجتياح الجيش الإسرائيلي للمنطقة، أُجلي من المستشفى إلى جنوبي القطاع، وسط حشود من المصابين والمشردين.

"خرجت بملابسي الداخلية نحو الجنوب، وخضت رحلة علاج صعبة بسبب نقص الأدوية والمستلزمات"، قالها بصوت بدا وكأنه لم يتعافَ تمامًا، حتى وهو يبتسم.

حين استعادت ساقه بعض العافية، حمل جسده المثقل بالجراح نحو شاطئ دير البلح. كان يبحث عن صورةٍ للجمال القديم. بدلًا من ذلك، وجد أطفالًا نائمين على الرمل، وخيامًا تمزقها الرياح.. لم يُفاجأ، لكنه تألم، وهنا، ولدت الفكرة.

"أردت أن يعيش العالم تجربتنا في الحرب كما هي، أن يسمعوا أصوات الطائرات والانفجارات والبحر وهمهمات النازحين. ففكرت بمعرض تركيبي يدمج الصورة والصوت"، هكذا صاغ إسماعيل فكرة معرضه، واختار له اسم "ما بين السماء والبحر"؛ ليروي فيه حصار النازحين في غزة، حيث السماء تقصف والبحر يمنع الهرب.

لم يُرِد أن يكون مجرد معرض صور، أراد أن يعيد تمثيل المشهد كما هو، بخيمة وموقد شاي ورمال بحر وشادر أبيض، ليقيم بها معرضًا في لوس أنجلوس، خيمة كأنها من غزة.

عمل إسماعيل مع فريق متعدد الجنسيات، وطُبعت الصور بجودة عالية، وصُمم الديكور بعناية، وجرى ربط الخيمة رقميًا باستراحة "الباقة" في غزة، لتكتمل الدائرة بين الحدث والمكان، بين الجرح والحكاية.

"الزوار ظنوا الأمر فانتازيا، لكنهم عندما شاهدوا مقاطع الفيديو الحقيقة صُعقوا، شعروا بالقشعريرة، وبأن غزة ليست مجرد عنوان في الأخبار".

خلال لقائنا معه لم تغادره البسمة. كان مؤمنًا تمامًا بأن الفن يستطيع أن يوصل أعظم الرسائل، أخبرنا: "الزوار ظنوا الأمر فانتازيا، لكنهم عندما شاهدوا مقاطع الفيديو الحقيقة صُعقوا، شعروا بالقشعريرة، وبأن غزة ليست مجرد عنوان في الأخبار".

امتدت أحلام إسماعيل إلى مشروعه الأوسع، BYPA – By Palestine، منصة إعلامية أسسها لتكون منبرًا للرواية الفلسطينية، بعيدًا عن بعض وكالات الأنباء التي كان يصفها بأنها "تطمس التفاصيل وتُسيّس الحكايات". وكان يؤمن -كما قال- أن "الصوت الذي يُمنع، يولد منه عشرة أصوات أخرى".

عمل إسماعيل لسنوات مع "يونسكو"، ومؤسسة "كير"، وشبكته من الأصدقاء الدوليين دعموه في إنشاء المنصة، وساعدوه على تنظيم معارض جديدة.

أراد إسماعيل أن يُمكّن الشباب الفلسطيني، أن يمنحهم أدوات السرد والأمان البصري وصناعة القصة، وأن يرسلها معهم إلى كل بقاع الأرض.

"ما بين السماء والبحر" لم يكن المشروع الأخير.. كان يخطط لمعرض آخر بعنوان "Home"، ليتحدث عن معنى البيت في حياة الفلسطيني، ليس كمكان فقط، بل كامتداد للهوية.

أراد إسماعيل أن يُمكّن الشباب الفلسطيني، أن يمنحهم أدوات السرد والأمان البصري وصناعة القصة، وأن يرسلها معهم إلى كل بقاع الأرض.

لكن القدر لم يمنحه الفرصة ليشارك تقريرًا جديدًا، أو منشورًا على "فيس بوك"، كما كان يفعل مع كل تفاصيل مشاريعه. رحل إسماعيل، ولم ينشر شيئًا عن المعرض الذي مات قبل أن يُفتتح. رحل تاركًا الكاميرا وحدها، تصارع ذكرياتٍ "ما بين السماء والبحر".

كاريكاتـــــير