غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
تحت وقع القصف المدفعي والجوي المتواصل، وحصار الحركة الذي تفرضه مُسيَّرات "الكواد كابتر"، يلتزم المواطن شادي الكحلوت وأسرته مكانهم بين شوادر نصبوها فوق ما تبقى من منزلهم، في حي التفاح شرقي مدينة غزة، قبل أن تقصفه طائرات "إسرائيل".
المنطقة مصنفة كمنطقة إخلاء وعلى الخريطة مغطاة بـ"اللون الأحمر"، بحسب بيانات جيش الاحتلال الإسرائيلي، لكن الكحلوت يأبي المغادرة هذه المرة، مبررًا ذلك بقوله: "لا مكان آمن في غزة، ولن نقبل أن نكرر مأساة النزوح مجددًا. ما تعلمته على مدار أكثر من عام من الحِل والترحال بداية من مناطق غربي مدينة غزة، ثم الانتقال نحو الجنوب، هو أن ليس للإنسان حياة سوى في بيته، أو بالأحرى في مكان بيته، أو على ما تبقى من أنقاضه".
ويضيف: "كنت حريصًا في المرات السابقة على الابتعاد عن بؤر الخطر قدر الإمكان، وأصرف جل تفكيري في محاولات تجنب أن يصيب أسرتي مكروه من أي نوع، لكن مع تعرض محيط خيمتنا للقصف أكثر من مرة في قلب ما يسميه الاحتلال المنطقة الإنسانية الآمنة بالمواصي، أيقنت أن لا جدوى من ذلك طالما بَقِيت الحرب مستمرة".
"مع تعرض محيط خيمتنا للقصف أكثر من مرة في قلب ما يسميه الاحتلال المنطقة الإنسانية الآمنة بالمواصي، أيقنت أن لا جدوى من ذلك طالما بَقِيت الحرب مستمرة".
ويشير الكحلوت إلى أن عجزه عن توفير متطلبات الانتقال إلى مكان آخر يمثل عبئًا إضافيًا يحرم أسرته فرصة الأخذ بالأسباب، "فتكلفة المواصلات العالية، وعدم امتلاك خيمة أو نقود لشراء مستلزمات إنشاء واحدة جديدة، أو توافر مكان لنصبها، وحالة التكدس الشديد في مراكز الإيواء، جميعها عوامل تجبرنا على التسليم لقدرنا بالبقاء في دائرة الخطر".
إهمال إجباري
وبصوتٍ يغمره الألم، يحكي طلعت شعث، وهو مريض فشل كلوي، عن عجزه عن الالتزام بجلسات الغسيل بعد خروج المستشفى الأوروبي عن الخدمة؛ نتيجة القصف الإسرائيلي ووقوعه ضمن منطقة عمليات جيش الاحتلال، وصعوبة الوصول إلى مجمع ناصر الطبي؛ نظرًا للتكلفة العالية للمواصلات، ناهيكم عن تعرض الطرق المؤدية إليه للقصف المدفعي المستمر من قبل الدبابات الإسرائيلية المتوغلة في خان يونس جنوبًا.
ويشرح شعث: "كنت أخضع لثلاث جلسات غسيل كلى كل أسبوع، مدة الجلسة الواحدة أربع ساعات، لكن مع خروج المستشفى الأوروبي عن الخدمة وتكدس المرضى في مجمع ناصر، أصبحتُ بالكاد استطيع الحصول على جلسة واحدة لمدة ثلاث ساعات كل أسبوع"، مردفًا: "ارتفاع تكلفة المواصلات وتهالك أجهزة الغسيل وسوء الخدمة بسبب انهيار المنظومة الطبية، أجبرني على إهمال صحتي".
أنا مريض كلى وأحتاج لمياه وطعام صحي، لكن هذا كله غير متاح بسبب الحصار (..) شيئًا فشيئًا وجدتُ نفسي مستسلمًا للأمر الواقع، فلا حيلة لدي لفعل أي شيء".
ويتابع: "الطامة الأكبر تتعلق باشتداد المجاعة وشح الطعام والمياه الصالحة للشرب، فأنا مريض كلى وأحتاج لشرب مياه بمواصفات معينة، وكذلك تناول طعام صحي، لكن هذا كله غير متاح بسبب الحصار"، متابعًا بحسرة: "شيئًا فشيئًا وجدتُ نفسي مستسلمًا للأمر الواقع، فلا حيلة لدي لفعل أي شيء".
أما أحمد الكفارنة، المصاب بشظية قطعت الأوتار العصبية في ذراعه اليسرى، فيقول: "تذهب إلى المستشفى فلا تحصل إلا على المسكنات في أحسن الأحوال، لا علاج ينقذ ذراعي من قرار البتر الذي يقترب كل يوم، فالعمليات التي أحتاجها لا تستطيع مستشفيات غزة إجراءها، والأطباء المتخصصين بمثل إصابتي قتَلَهم القصف، ومع خشية إدمان المسكنات لم يبق لدي أسباب لمراجعة المستشفى".
وتستذكر عبير النذر، أم لأربعة أطفال من شمالي غزة، حال أبنائها قبل الحرب، بعد أن كانوا آيةً في التهذيب والترتيب والتفوق الدراسي، بحسب وصفها، والتأكيد على سعيها الدؤوب لتنشئتهم في ضوء التربية الإيجابية وتعزيز القيم الحميدة في نفوسهم، وحمايتهم من اكتساب عادات مذمومة تحرف سلوكهم وتشوه مستوى الوعي الذي كانت تطمح لوصولهم إليه.
وتقارن الأمس مع ما وصل إليه أبناؤها من تشرد وضياع في بيئة النزوح، سلب منهم كل ما تربوا عليه قبل الحرب، فبدلًا من الكلام المهذب أصبح الصراخ بالألفاظ النابية لغتهم المعتادة، وحلَّ طابور المياه والتكية مكان طابور المدرسة الصباحي، وبين انشغالها بالمسؤوليات الإضافية وعجزها عن الحفاظ على بيئة صالحة لتربيتهم "ضاع الأولاد" تقول وتضرب كفًا بكف.
سلوك مكتسب
ويعزو الدكتور سلامة أبو زعيتر، رئيس نقابة الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين في قطاع غزة، ما أسماه بـ "ظاهرة اللامبالاة المكتسبة" لدى الغزيين، إلى الصدمة المزمنة والتعود على الواقع، وفقدان الأمان، ما جعل من اللامبالاة آلية دفاعية لتقليل استنزاف الطاقة النفسية.
"هذه الظاهرة تحمل أبعادًا خطيرة على البنية الاجتماعية، قد تؤدي إلى تآكل التماسك الاجتماعي وفقدان المبادرة والدافعية؛ نتيجة الشعور بأن الجهود لا تجدي نفعًا".
ويرى أبو زعيتر أن هذه الظاهرة تحمل أبعادًا خطيرة على البنية الاجتماعية، قد تؤدي إلى تآكل التماسك الاجتماعي وفقدان المبادرة والدافعية؛ نتيجة الشعور بأن الجهود لا تجدي نفعًا، "وبالتالي الوصول إلى حالة جماعية من تدهور الصحة النفسية، مدفوعة باضطرابات ما بعد الصدمة".
ويتابع: "وتفتح هذه الظاهرة الباب أمام إذعان عام للواقع، وتظهر استعدادًا أقل للنضال من أجل الحقوق الأساسية، مما يحد من فرص التغيير الإيجابي في المستقبل".
ويؤكد رئيس نقابة الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين، أن معالجة ظاهرة "اللامبالاة المكتسبة" في قطاع غزة، ليست مجرد واجب إنساني فحسب، بل ضرورة حتمية للحفاظ على النسيج الاجتماعي والصحة النفسية، من خلال اتخاذ إجراءات تعزز الوعي والمرونة النفسية، وتزرع الأمل برزمة من الخطوات السياسية التي تفضي إلى وقف الحرب وتحقيق الاستقرار".
"اللامبالاة المكتسبة” ليست مجرد استسلام فردي، بل أزمة مجتمعية حقيقية، تتحول فيها القلوب إلى حصون من الصمت، بينما التماسك الاجتماعي يتداعى. بناء مناعة نفسية يتطلب خطوات عاجلة: تعزيز الدعم النفسي، وفتح مراكز علاجية، وإشراك المجتمع، وإيقاف القصف لضمان الاستقرار.