شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم السبت 27 سبتمبر 2025م01:27 بتوقيت القدس

جوعٌ يضرب "القلب" في غزة.. لا علاقة للطعام!

24 ابريل 2025 - 12:25

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

"الحرب لم تغير فقط طريقة حياتنا، بل أعادت تعريف الجوع فيها. لم يعد الجوع مجرد رغبة في تناول الطعام، بل أصبح جوعًا لحياة مستقرة، بسيطة، مليئة بالاختيارات التي تُصنع بإرادتنا، لا بإملاءات الحرب" تقول مرام عليان لـ"نوى".

الشابة البالغة من العمر 21 عامًا، وتقطن شمالي قطاع غزة، عبرت عن صورةٍ جديدةٍ لمفهوم الجوع تشكّلت في وعيها نتيجة ما عاشته من ويلاتٍ تحت وطأة حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023م.

حربٌ لم تتوقف رحاها للعام الثاني على التوالي، سحقت تحتها أكثر من مليونَي إنسان، تمامًا كما تسحق الرحى حبات القمح، لكن الفرق في أن الثانية تنتج دقيقًا وطحين خبز، أما الأولى فتغمّسه بالدم.

وبعد نحو عشرين شهرًا من المآسي والويلات التي أعادت تعريف المفاهيم الشائعة بمنظور فلسطيني غزي بحت، أعاد أهل غزة ترتيب معاجم اللغة بشكلٍ أظهر قصورها، رغم اتساع بحور المفردات، وكشف عجزها عن إيجاد مصطلحات قادرة على التعبير عن حقيقة ما يشعر به أهلها.

جوع معنوي وروحي

وتقطع مرح صلاح (20 عامًا) من مدينة دير البلح، وسط قطاع غزة، مسافة كبيرة في تعريفها للجوع، لتعبر بكلماتها إلى ما بعد الأفق، وتنتقل إلى جوانب إنسانية أخرى، فتقول: "أضحى شعورًا نفسيًا معنويًا وروحيًا، قبل أن يكون تعبيرًا عن حاجةٍ جسدية".

وتشرح ذلك بقولها: "أشعر بجوع شديد للأمان، لصوت فتح الباب دون خوف، لصباح لا يوقظني فيه صوت قصف وانفجار. أتضور جوعًا لجلسة عائلية بلا مفقودين، تتعالى فيها أصوات ضحكاتنا جميعًا، بل إني أجوع لحياتي الروتينية وأيامي التي لطالما رأيتها مملة، وفي أعماق هذا جوع كبير للحب والسلام، لحقوق بسيطة؛ طبيعية في كل العالم إلا في هذه البقعة المنسية".

وفي إشارة لصورة أخرى من صور الجوع المعنوي، أفصح سالم الرفاتي (42 عامًا) من مدينة غزة، عن جوعه للاتكاء على أحد جدران بيته الذي استوى بالأرض، بعد قصفه أكثر من مرة خلال الغارات الإسرائيلية المتواصلة على حي التفاح شرقي المدينة.

يخبرنا الرجل أنه حُرم حتى من مجرد نصب خيمةٍ فوق ركامه؛ نتيجة توالي أوامر الإخلاء ونشاط العمليات البرية لجيش الاحتلال في المنطقة التي يقع فيها.

ويحكي الرفاتي: "الكثير من أشكال الجوع عشناها خلال هذه الحرب، لم نكن نعرفها من قبل ولم نتصورها! أبسطها جوعي أنا وأسرتي للاستقرار في مكان ما، بعد أن كان لدينا بيت دافئ يتسع لنا على ضيق مساحته"، مردفًا بقهر: "أجوع إلى فنجان قهوة الصباح حين أفيق على صوت العصافير، وأفتح شباكي لمراقبة أعشاشها على الأشجار القريبة".

أما فرح الكولك (19 عامًا) من حي الزيتون بمدينة غزة، فعبّرت عن جوعها المعنوي بطريقة مختلفة: "أنا جائعة لغزة التي أعرفها، لحاراتها وشوارعها وبيوتها ومساجدها العتيقة، لذاك العبق الساحر الذي يحيط بكل ما فيها، وكأنه فقاعة هلامية محسوسة لا يراها أو يشعر بها سوى من يحب هذا المكان بصدق، ولا يستطيع أن يتنفس بعيدًا عن هوائه".

وأضافت آيات أبو السعود، النازحة من مدينة رفح إلى خان يونس، مفهومًا آخر، تمثّل في الجوع إلى العدالة وحفظ الكرامة الإنسانية التي يستبيحها الاحتلال بأبشع الطرق، وترى في تحققهما سفينة النجاة نحو بر الأمان، في ظل العجز عن اتخاذ أي خطوة من شأنها حماية المكلومين ورفع الظلم عنهم.

حياة مختلفة

ولا تتجسد صورة الإبادة في حرب الاحتلال الإسرائيلي المتواصلة على قطاع غزة بمشاهد الموت والدمار فقط، بل تتعدى حد التشويش على المعاني الإنسانية الأصيلة في وجدان البشر، وتخترق جدران الذاكرة من خلال الوحشية المفرطة وجرائم العقاب الجماعي، بطريقةٍ تضع كل ما عرفه الفلسطيني من مقومات الحياة وسبل عيشها موضع ريبة وشك.

وتذكر أنسام القاضي (34 عامًا)، النازحة من مخيم جباليا إلى غربي مدينة غزة، التغيرات الجذرية التي طرأت على حياتها منذ اندلاع الحرب، وتحمل معها اختلافات حملتها على التشكيك بحقيقة ما عاشته قبلها.

الحقيقة بنظرها هي هذه الخيمة التي باتت تؤوي من تبقى من أسرتها، وموقد النار الذي تطهو عليه منذ عام ونصف، وطوابير طويلة لكل شيء، كطابور الخبز والماء والتكية، وحتى الحمّام.

وتقول: "هذه الأشياء المتخيلة في أذهاننا عما عاشه أجدادنا إبان النكبة انقلبت في ليلة وضحاها إلى حقيقة دامغة، جوعي هو استعادة ما بات محبوسًا في خيالي، وحذف هذا الواقع الذي أعيشه الآن وإلى الأبد".

ويشير الطفل عبد الله البريم، من المنطقة الشرقية لمحافظة خان يونس، جنوبي قطاع غزة، إلى اختلاف مفهوم الجوع لديه بعد أن أصيب في قصف إسرائيلي أدى إلى بتر إحدى ساقيه.

يقول: "كنت أحب اللعب إلى درجة لا تتخيلها، وكان ذلك يؤثر على مستواي الدراسي، حتى أن أمي كانت تقول دائمًا أنت تتنفس اللعب وليس الأكسجين كباقي البشر".

ويتابع: "منذ إصابتي وبتر قدمي تحول كل شيء، لقد تحوّلت إلى سجينٍ يكبله هذان العكازان، وأصبح أقصى طموحي لأشبع جوعي للعب أن أكتفي بالمخاطرة بركل الكرة لمرة واحدة، قبل أن أسقط على الأرض".

ولا تزال غزة تزخر بالكثير من الصور المختلفة التي تُجسّد معانٍ غير مألوفة لمفهوم الجوع بالنسبة للبشر خارج هذه البقعة المنكوبة من الأرض، فلكل إنسان فيها قصة أو أكثر مع صورة فريدة من الجوع، لا تقل وطأة عن ألم الجوع الحقيقي الذي يشترك فيه أكثر من مليوني إنسان يقبعون في هذا السجن الكبير تحت وطأة سجان فاشي لا يرحم.

كاريكاتـــــير