شبكة نوى، فلسطينيات: "خجلتُ من صرخاتي أثناء المخاض، فقد كان عليَّ أن أحترمَ الموت الذي يحيط بي من كل جانب. لكم أن تتخيلوا الولادة في مكانٍ مكتظٍ بالجثث، ولكم أن تفكروا كم هو صادمٌ أن يستقبل طفلكم الحياة تحت سماءٍ من الموت المنهمر" تقول سارة أبو عون (22 عامًا) لـ"نوى".
في مستشفى ناصر الطبي بمدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة، وضعت سارة مولودها البكر، بعد رحلة نزوحٍ متكررة أجبرها عليها الاحتلال، بدءًا من بيتها في منطقة التوام شمالي قطاع غزة، وليس انتهاءٍ بالتواجد جنوبه برفقة طفلٍ لم يعرف من الحياة بعد إلا أصوات الصواريخ، ولون دماء الشهداء.
تقول: "في ليلةٍ عصيبةٍ قضيناها تحت القصف بدأت رحلة النزوح من بيتي إلى مستشفى الشفاء مشيًا على الأقدام برفقة عائلة زوجي. كنتُ حاملًا في الشهر السادس، وكنتُ أعاني من ضغط المثانة بسبب كبر حجم الجنين، وهذا زاد من معاناتي بشكلٍ أكبر".
هناك، لم تجد سارة الأمان أبدًا، بل وتفاقمت معاناتها بسبب ظروف النزوح في مكانٍ لحقها إليه مئات الفلسطينيين الهاربين من صوت الموت في شمال غزة غربها وشرقها أيضًا. تضيف: "الحمام وحده كان مشكلة. طابوره طويل جدًا، ناهيكم عن عدم توفر المياه بداخله، ووجود الكثير من الرجال في طابور الانتظار، الأمر الذي يجعلك تشعر بالخجل المستمر، وهذه المعاناة الكبرى يمكن أن تحكي عنها كل الحوامل اللاتي شاركنني الرحلة آنذاك".
أسبوعان، مكثتهما سارة في مستشفى الشفاء، قبل أن يقرر الاحتلال أن على الموجودين فيها الرحيل، تحت ضغط القصف المتواصل. تتابع: "توجهنا إلى كلية العلوم والتكنولوجيا في محافظة خان يونس، ومكثنا في قاعة مليئة بالنازحين تفتقر إلى مقومات الخصوصية والراحة. هكذا حتى جاءتني آلام المخاض، وكان علي التحرك إلى مستشفى ناصر على الفور، لأصطدم بمشكلة المواصلات، وحينها كانت عربة الكارو المنقذ الوحيد".
في المشفى، وُضِعت سارة في مبنى المبيت داخل قسم الولادة الطبيعية، دون الرعاية الصحية الطارئة الخاصة بالحوامل، التي تشتمل على فحص الدم وقياس ضغط الدم والتخطيط الدوري للجنين، ناهيكم عن عدم وجود أطباء أو ممرضات، بسبب انشغالهم بتطبيب جرحى العدوان، وتكفين شهدائه.
وتقدّر الأمم المتحدة بأن حوالي 50 ألف سيدة حامل تعاني من مضاعفات صحية، وأمراض سوء التغذية، وخصوصًا حالات الحمل الخطر، نتيجة عدم توفر مياه الشرب والنظافة والطعام والرعاية الصحية في مراكز الإيواء.
وتشير التقديرات إلى نحو 180 ولادة تتم يوميًا في ظروفٍ قاسيةٍ أثناء الحرب، وأن 15% من النساء الحوامل سيتعرضن لمضاعفات الولادة، أي أن أكثر من 25 امرأة يوميًا تتعرض حياتهن لخطرٍ كبير عند رعاية التوليد وحديثي الولادة في حالات الطوارئ.
وتصف أبو عون ولادتها بالجحيم، وتتابع: "شعرتُ بآلام المخاض الشديدة، وأُدخلتُ كشك التوليد وتُركتُ وحيدة، إذ لم يكن بداخل الكشك سوى طبيبة واحدة، وكانت تتابع ولادة سيدة حبلى بجانبي، وخلال لحظات شعرتُ بأن جنيني سيخرج للدنيا وحينها لم يكن عندي أحد. صرختُ بأعلى صوتي، ساعدوني أرجوكم، وهنا أرسل الله لي ممرضة وأتمّت عملية التوليد".
هنا بدأت رحلة خوفٍ وقهرٍ جديدة. كان على سارة أن تتحرك مسرعةً بطفلها خارج المشفى نحو محافظة رفح، ذلك لعدم وجود أسرة. ركِبت عربة كارو، وانطلقت مُسرعة تلاحقها أصوات القذائف والرصاص.
ووفق القابلة في مستشفى ناصر الطبي، سحر عبد السميع، فإن حالات الولادة منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من تشرين أول/ أكتوبر الماضي، لا تأخذ حقها الكامل في الرعاية الطبية، وتقول: "اضطررنا مرة لتوليد ثلاث حالات على سرير واحد، وبعض الحالات تمَّ توليدها على الأرض".
داليا ماضي أيضًا، عاشت لحظات المخاض برعبٍ قبل عدة أيام، وقالت: "وضَعتُ مولودتي قبل شهر في ظروفٍ غير صحية على الإطلاق داخل المستشفى الإماراتي برفح، فقد كنت أعاني من ارتفاع الضغط وسكر الحمل، وتم تحديد موعدٍ لعملية قيصرية أكثر من مرة وتأجيلها بسبب الأوضاع".
بمجرد انتهاءها من وضع طفلتها، انطلقت داليا لمواصلة الحياة داخل ظروف هذه الحرب المسعورة داخل خيمةٍ تغرقُ بشكلٍ مستمر بسبب المطر.
تزيد: "لم يكن لدي مكان مناسب للاستحمام، ولم تتوفر لي الأدوية والمسكنات والمضادات الحيوية التي تساعد على التئام الجرح، وتعينني على استمرار الرضاعة، الأمر الذي عزز حدوث التهابٍ شديد، تطلب مني التردد على المشفى بشكلٍ مستمر لتغيير الشاش وتخفيف آثار الالتهاب".
تقضي ماضي نهارها في البحث عن حفاضات لطفلتها الصغيرة. الأسعار مرتفعة بشكل مرعب، ناهيكم عن الأدوية التي باتت تحتاجها لرضيعتها التي تعاني من سوء التغذية، والتقيّؤ والرشح الدائم بسبب البرد داخل الخيمة ليلًا.
تتابع: "تحتاج يوميًا لتبخيرتين كي تستطيع التنفس بشكلٍ جيد. الخوف يرافقني على طفلتي طوال النهار، وفي الليل أحاول أن تبقى في حضني، حتى إذا استشهدنا نستشهد معًا".
تبتسمُ بقهر: "ابنتي ما زالت تحتاج لشهادة ميلاد. حزينة لأنني لم أستطع أن أفرح بقدومها إلى الدنيا. لم أوزع الحلويات ولم أستقبل المهنئين، أفكر فقط في كيفية وصولي برفقتها إلى بر الأمان".