شبكة نوى، فلسطينيات: هبة الشريف
شبكة نوى
"يعزُّ علينا كمعلمين أن نعيش هذه الصورة، لكننا في الحقيقة نعيشها. عزائي أنني ألتقي كل يوم بما يزيد على ٣٠ طفلًا في موعدٍ محدد. تجمعُنا الساعة الثالثة عصرًا فنتفقد أحوال بعضنا وأروي للأطفال قصة، نناقشها، ومن يجيب براعةٍ يحصل على هدية من عشرة أخصصها يوميًا للتشجيع على التيقّظ والمشاركة".
هكذا بدأت معلمة اللغة الإنجليزية في مدرسة "حليمة السعدية" الأساسية للبنات شمال قطاع غزة، أسماء مصطفى حديثها لـ"نوى".
وأسماء، المعلمة منذ 16 عامًا، قررت بعدما استقرت إقامتها في غرفة المكتبة داخل أول مدرسةٍ نزحت إليها من بيتها في الشمال، (الفخاري- التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين بخان يونس)، تخصيص جزءٍ من وقتها اليومي للأطفال النازحين، فتقرأ لهم القصص، وتناقشهم في قضايا تربوية كثيرة تتعلق بالمدرسة والحياة، تعويضًا عن ما فاتهم في العملية التعليمية المتوقفة في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023م.
تقول: "لا أُخفيكم، واجهتُ صعوبةً في استيعاب كافة النازحين الأطفال داخل المدرسة كل يوم، فالغرفة لا تتسع لأكثر من 50 فردًا. حددتُ عدد المجموعات من الأطفال بحيث لا يزيد عدد المجموعة على 30 طفلًا، كل طابقٍ يحتوي على 3 أجنحة، وكل جناحٍ يجتمع مرتين في الأسبوع لسماع الحكاية"، مضيفةً: "بعض المجموعات شملت 25 طفلًا، وبعضها 30، وأكثر مجموعةٍ ضمّت 42 طفلًا، وبين أسبوعٍ وآخر أنتقل إلى أطفال آخرين في طابقٍ مختلف".
تحتوي المدرسة على 4 طوابق وجناحين منفصلين في الطابق الأرضي، أي ما يزيد على 1200 طفل، أعمارهم تتراوح بين 5 سنوات و13 سنة، وهذا الاختلاف في الفئات العمرية في نفس الجلسة دفع أسماء لقراءة القصص بدقة مسبقًا قبل روايتها، من أجل اختيار ما يتناسب مع الجميع، وتحديد الأسلوب التربوي الذي يجذب كافة الأعمار.
تشير أسماء إلى أنها وجدت هذه المبادرة، فرصةً لملء فراغ الوقت العصيب الذي يعج بأصوات القصف الجوي والمدفعي من حولها، وصوت أخبار الموت والدمار والشهداء والجرحى والمفقودين، وصراخ الأمهات والأطفال.
تتابع أسماء بابتسامة رضا: "كان هدفي إبقاء عقول الأطفال متصلة مع مهارات التفكير من وعي وإدراك وفهم وتطبيق وتحليل وتركيب، عبر مناقشة الدروس المستفادة من القصة، وبعض الألعاب الترفيهية البسيطة".
لم تقبل أسماء بفكرة الانقطاع التام عن التعليم، "فما نعيشه هنا يندرج بكل وضوح تحت سياسة العدو المحتل في تجهيل أبناء غزة (..) ما أفعله ليس سوى محاولة متواضعة لرفض هذه السياسة، والإصرار على استكمال عمليات التعليم بالتربية، ولو بأقل الإمكانيات، وبأبسط الاستراتيجيات التعليمية".
وتردف: "أعظم نجاح هو رؤيتي فرحة الأطفال وذويهم، ورؤية بعض الأمهات يتبعن نفس الأسلوب في خيمهن وغرفهن الصفية للترويح عن أبنائهن في ظل الظرف العصيب الذي يعيشونه، بل إن بعضهن يستعرن مني القصص ليروينها لأطفالهن قبل النوم".
بعد انقضاء ثلاثة أشهر من الحرب على غزة، نزحت أسماء مرة أخرى من مدرسة الفخاري إلى منطقة تعرف بمواصي رفح، أقصى جنوب قطاع غزة، وبعدما انتهت من بناء خيمتها هناك بالقرب من ما يزيد على مئتي ألف خيمة أخرى، عادت لتبدأ التجربة من جديد.
تخبرنا: "في مكان إقامتي الجديد، وجدتُ وقت الأطفال يذهب هباءً، الأمهات مشغولات بالخبز على الحطب وتوفير المياه، وغسل الثياب، وطبخ الطعام على النار، والآباء يسعون لتوفير لقمة العيش، والأطفال أنظر إليهم وأبتسم لكنني أخبئ في قلبي حسرةً على حالهم".
لطالما اقتنعت أسماء بأن الابتسامة هي مفتاح التواصل مع الطفل، لكن هذه القناعة بعد الحرب اختلفت. "يعيشون أصعب أيام حياتهم، وأغلبهم وصل به الحال إلى أنه لا يرغب بالكلام مطلقًا" تعقّب.
وتكمل: "لا أُخفيكم، استغرق الأمر أسبوعين كي أنشئ علاقة معلم بطلابه، وفي الوقت ذاته علاقة أم بأبنائها، كنت قريبةَ منهم جدًا إلى الحد الذي يمكنني من أن أروي لهم كل يوم قصة تمنحهم درسًا في الحياة، وتعلمهم المبادئ والقيم".
مع مرور الوقت، أصبحت أسماء صديقةً لأكثر من مئة طفل وطفلة، لكل واحدٍ منهم قصة من القهر والألم يرويها لها في موعد القصة على تلة صغيرة في العراء. تقول: "هنا أستمع إليهم كل يوم، وأشاركهم قصصهم ومن ثمّ أروي لهم قصة قصيرة تأخذهم إلى عالمٍ بعيدٍ نوعًا ما عن الواقع المليء بالقتل والموت والدمار".
وتتابع: "كنتُ أشعر بشغف الأطفال عند الاستماع لقصتي، وألحظُ على وجوههم الشعور بالسعادة والأمل نسبيًا. كنت أرى على وجوههم الشعور بالأمان النسبي".
وتزيد: "هنا يجمعنا الحب والأمل. بين خيامنا شديدة البرودة، صغيرة الحجم، باهظة الثمن، تجمعُنا المعاناة وتُوحدنا مرارة الفقد والوجع. تتشابه آلامنا ونتفق دومًا في حُبنا للحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلًا".
ترى أسماء أن أهل غزة خرجوا من تحت الركام آلاف المرات، ونجحوا في إعادة بناء أنفسهم كثيرًا، نجحوا طويلًا في نفض غبار الألم والقهر بمواساة بعضنا البعض، "يُطمئنُ أحدنا الآخر بأن القادم أجمل مما مضى، وأن الحرب قد تصنعُ منا أشخاصًا غير الذي نحن عليه، نحب غزة متفقين أكثر وأكثر وأكثر".