شبكة نوى، فلسطينيات: رشا أبو جلال
"لماذا لا أزال أشعر بالبرودة يا أمي؟" أصابت هذه الكلمات التي خرجت من بين شفاهٍ مرتجفةٍ لطفلةٍ نائمة لم تتجاوز السابعة من عمرها، قلب والدتها "رنا الشامي" في مقتل، بعد فشل كافة محاولاتها لتوفير الدفء لها.
تقيم الشامي (٣٧ عامًا) مع أسرتها المكونة من 4 أفراد في خيمةٍ من القماش والنايلون منذ أكثر من أربعين يومًا، في حي تل السلطان غربي مدينة رفح، جنوب قطاع غزة، بعد أن هربت من منزلها في مخيم المغازي وسط القطاع بسبب الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين أول لعام ٢٠٢٣م.
تصف هذه الأم المعيشة داخل الخيمة في ظل البرد القارس في ذروة فصل الشتاء بأنها "جحيمُ لا يطاق"، وتقول لـ"نوى": "البرودة هنا قاسية جدًا، إذ لا توفر الخيمة الدفء لساكنيها ولو التحفنا بعشر بطاطين".
قاطعها صوت طفلتها "رهف" لتقول: "عندما أنام أضم يداي المجمدتين إلى صدري، وأقربهما من فمي، واستمر بالنفخ عليهما من أجل تدفئتهما. أشعر ببعض الدفء حينها، ولكنه يزول سريعًا بمجرد توقفي".
إلى جوارها، يرقد شقيقها الصغير "مراد" ذو الستة أعوام على فرشةٍ إسفنجية مكسوة بطبقة من الجلد حصلت عليها العائلة النازحة من إحدى مدارس وكالة الغوث (انروا). كان مراد ملتحفًا ببعض الأغطية يكاد لا يظهر منه سوى عيناه الصغيرتان.
"جسمي تلج"، لم يتوقف لسان مراد عن ترديد هاتين الكلمتين، رغم ما يعانيه جسده من سخونة شديدة نتيجة إصابته بالزكام بسبب نزلة برد قاسية.
تقول الأم: "جميعنا أصبنا بالزكام وأمراض البرد هنا. أنا وزوجي خالد، والطفلين".
كان الأب خالد البالغ من العمر (٤٢ عامًا)، مشغولًا بصنع موقدٍ صغيرٍ من صفيحة حديدية وجدها خارج الخيمة، من أجل استخدامه في إشعال النيران للحصول على بعض الدفء لعائلته.
يقول خالد: "بحثتُ في أسواق رفح عن موقد ولكني لم أجد. أحاول هنا صنع واحد. هي محاولتي الأولى ولكني أظن أنني سأنجح".
وأوضح أنه قام مسبقًا بجمع بعض أغصان الأشجار من أجل إشعال النيران فيها على الموقد، كبديلٍ عن الفحم الذي وصل سعر الكيلو الواحد منه إلى ٣٠ شيكلًا، بعد أن كان لا يتجاوز ستة شواكل قبل الحرب.
قبل أيام قليلة أصيب الطفلان رهف ومراد ببرد في المعدة نتج عنه التقيؤ والإسهال بشكل مستمر، وهي أعراض يصعب التعامل معها في مثل هذه الظروف القاسية.
قالت الأم رنا تصف هذه الظروف: "كانت معاناةً تفوق الخيال. تخيلي أن طفلك المصاب بالإسهال يريد قضاء حاجته كل خمس دقائق تقريبًا، فتُجبرين على اصطحابه إلى الحمام الوحيد الذي يخدم عشرات الخيم من حولك ويبعد عنك نحو خمسين مترًا، والمطر منهمر فوق رأسك وفي ظل بردٍ قارس".
وأضافت: "تخيلي فوق كل ذلك أن يكون هذا الحمام مشغولًا، وأمامك عدد آخر من النازحين المنتظرين.. هل تتصورين حجم المأساة".
واستطرَدَت بالقول: "في قضاء الحاجة، الأطفال لا ينتظرون، قد يفعلونها على أنفسهم وحينها سيفتح عليّ باب جهنم جديد يتمثل بتنظيفهم وتوفير ملابس جديدة لهم في ظل شح الماء والملابس".
هذا الوضع الرهيب، قاد زوجها خالد لعصف ذهنه بحثًا عن حلٍ بديل يغني عن الذهاب إلى الحمام العمومي، حتى هداه سبيله إلى فكرة ما.
تقوم هذه الفكرة البسيطة على أساس صنع حفرة بيديه على عمق ٣٠ سم داخل الخيمة واستخدامها لقضاء حاجة أطفاله، ومن ثم طمرها بالرمال مجددا بعد الانتهاء.
"تبدو هذه الفكرة أكثر قبولا من خيار الذهاب إلى حمام عمومي تحت المطر" تقول رنا، ولكنها سريعًا ما أصيبت بالدهشة والشعور بعدم آدمية هذه الفكرة، عندما علمت أن أرضية الخيمة أصبحت ممتلئة بمثل هذه الحفر.
قالت الأم ساخطة: "أصبحنا نعيش فوق أكوام من الفضلات المدفونة بين ثنايا وجنبات الخيمة".
عندما يحل الليل وتزداد برودة الطقس، يحاول الأبوان منح طفليهما بعض الدفء الذاتي لحمايتهما من أمراض البرد.
تقوم الأم رنا باحتضان طفلتها رهف إلى جسدها، فيما يقوم الأب خالد باحتضان الطفل مراد، يعدُّون ساعات الليل كأنها دهر من العمر، وينتظرون بزوغ خيوط الشمس معلنةً نهاية ليلة جحيمية أخرى.
البحث عن الدفء داخل خيام النازحين الممتدة على طول البصر في أحياء وطرقات مدينة رفح مهمة مستحيلة، خاصة مع اشتداد برودة الطقس في فصل الشتاء.
ودفع جيش الاحتلال الإسرائيلي معظم سكان قطاع غزة إلى مدينة رفح، التي تبلغ مساحتها ٦٣ كيلو متر مربع، وهي سدس مساحة القطاع البالغة مساحته ٣٦٥ كيلو مترًا مربعًا.
وباتت هذه المدينة تؤوى نحو مليون ونصف فلسطيني معظمهم من النازحين، بعد أن كان يعيش فيها نحو ٣٠٠ ألف فلسطيني فقط.
وأرسلت العديد من الدول مثل قطر والسعودية والإمارات مئات الخيم إلى قطاع غزة من أجل إيواء النازحين، ولكنها حتى هذه اللحظة لم تغطِّ حاجتهم.
ورغم مرارة العيش في هذه الخيم، إلا أن الكثير من النازحين يكافحون من أجل الحصول على واحدة في ظل عدم توفر أي متسع في مراكز الإيواء.
ومثل جميع النازحين، تحلم عائلة الشامي بنهاية قريبة لهذه الحرب التي حصدت أرواح أكثر من ٢٧ ألف فلسطيني حتى اللحظة، ودمرت مدنًا وبلدات بأكملها داخل هذا القطاع المحاصر منذ عام ٢٠٠٧م.