شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الثلاثاء 19 مارس 2024م08:02 بتوقيت القدس

لمى غوشة من داخل حبسها المنزلي:

لستُ في فندق.. معزولةٌ أنا تقتلُني ذكريات التحقيق

22 ديسمبر 2022 - 17:10

شبكة نوى، فلسطينيات: أُحدثكم بصوتي الغائب الحاضر، وأنا حبيسة جدران منزل عائلتي الكائن في حي الشيخ جراح لليوم التاسع والسبعين على التوالي.

قد يظنُّ البعض أنني أقضي الوقت في فندقٍ بدرجة (5 نجوم)، قريبة من أولادي، أُمارس تمارين الاسترخاء يوميًا في أحضان طبيعة الحديقة الخارجية للمنزل، وأستمتع بصوت زخات المطر، وشمس كانون الأول الخجولة، لكن الحقيقة بعيدة كل البعد عن هذا الخيال الرومانسي المُبالغ فيه.

الحقيقة أنني تحولت من صحافية نشيطة أُلاحق صوت المهمشين والمهمشات في هذا الوطن المسلوب، ومن طالبة ماجستير في دائرة الدراسات الإسرائيلية في جامعة "بيرزيت"، تُنجز مشروعها النهائي بشغفٍ وجهدٍ متواصلين، إلى إنسانةٍ معزولةٍ عن العالم الحقيقي والافتراضي بكل تفاصيله الحلوة والمُرّة، مكتومة الصوت، وممنوعة عن ممارسة أبسط حقوقها كأمٍ تجاه طفليها الصغيرين. ممنوعةٌ من إيصال طفليها إلى مدرستهما التي لا تبعد إلا بعض الكيلو مترات عن المنزل، أو الذهاب معهما لزيارة الطبيب عند مرضهما، أو حتى التنزه بالشارع القريب من المنزل.

هاذان الطفلان اللذان لم يبلغا من العمر 5 سنوات بعد، أصبحا يدركان تمامًا معانٍ لمصطلحاتٍ سياسية تفوق عمريهما بمراحل، وتٌغَّيِب طفولتهما، كالحبس المنزلي، والمحكمة، والسجن، والجيش...

تخيلوا معي طفلًا بعمر ثلاث سنوات ونصف يراقب شاشات الكاميرا الخارجية للمنزل بشكل مستمر ليحمي أمه من مداهمةٍ مفاجئة، ويسألها بين الحين والآخر: "ماما رح ياخدوكي الجيش؟ ماما شو رح يصير بالمحكمة؟"، تخيلوا معي طفلة تبلغ من العمر 5 سنوات، تطلب ورقةً وقلمًا لترسم سجنًا بدون ألوان.

هذا هو المعنى الحقيقي لمفهوم العقاب المُمنهج والمٌتوارث، الذي اتخذته السلطات الاستعمارية ابتداءً من الانتداب البريطاني، وليس انتهاءً بالاحتلال الإسرائيلي. إنه الحبس المنزلي، أو ما يعرف بـ "الإقامة الجبرية"، وهو بالمناسبة من أشد أنواع القهر والذل، الذي يستهدف روح الإنسان وذاته بشكل مباشر.

وقد أُعَرّفه من خلال تجربتي الشخصية بأنه "عملية استغلالٍ مدروسة، تهدف إلى تحويل أنقى المشاعر الإنسانية التي يمتلكها الأهل والأحباب كالخوف والحب، إلى أدوات ضبط وقمع وسيطرة استعمارية. تجعل من الأب والأم سجانَين لابنتهما بالمعنى الحرفي للكلمة وذلك بالاعتماد على فعل المراقبة الدائمة لكل تصرفاتها وأقوالهما وممارساتها، يمكننا أن نقول "شرطة بيتية".

هذه التجربة التي أعايشها حتى الآن وأنا أكتب إليكن، وأُحرم من التواجد بينكن بقرارٍ ظالم، جعلتني أدرك أننا جميعًا كصحافيات وصحافيين، نقف سواسية أمام معركة مستقبلية يخوضها المحتل ضد أصواتنا جميعًا، فنحن نعيش في زمنٍ نحارب فيه من أجل قول الحقيقة ونقلها إلى العالم أجمع. نحارب بأجسادنا وأصواتنا الحرة منظومة قهر استعمارية، تعمل بلا كللٍ لبث الخوف في أرواحنا، ووضع كاتم الصوت على أفواهنا، هذا ما حصل معي، وما سيحصل مع كل واحدة منكن، فالصحافة اليوم كمهنة تواجه خطر البقاء، ونحن جيشها الوحيد.

التجربة الأخيرة التي مررتُ بها لم تكن الأولى، فقد سبق واعتُقلت وأنا حامل بطفلتي الأولى كرمل بينما كنت أعمل في مؤسسة "إيليا" للإعلام في القدس المحتلة، التي أُغلقت بالشمع الأحمر بقرارٍ حكومي، وحينها، خضعت للتحقيق في غرفٍ أربع تابعة لمقر المسكوبية، وقد استخدم المحقق حملي كأداة ضغط وترهيب لي، ليستمر بتهديدي بالاعتقال، وولادة طفلتي داخل جدران الزنزانة.

لاحقًا خضت تجربة الزيارة لزوجي المعتقل في سجن جلبوع، وأنا أحمل "كرمل" في أحشائي، ولا أنسى أبدًا خصوصية هذه اللحظات واستثنائيتها، وقد عملتُ دائمًا على نقلها وكتابة تفاصيلها المؤلمة، فلا خصوصية للمرأة الحامل أمام إجراءات السجن الرقابية، ولا خصوصية لطفلة حديثة الولادة ترى والدها للمرة الأولى من خلف زجاجٍ سميك.

ولا أزال أستذكر قوة الدفع التي ركلني بها جنود الاحتلال وأنا حامل بشهري التاسع، حينما كنت أنقل صورة القمع الدائر في منطقة باب الأسباط، عقب معركة البوابات الإلكترونية عام 2017م.

أمّا عن اللحظة الأكثر إيلامًا، فكانت يوم اعتُقلت يوم الرابع من أيلول من هذا العام، أمام عيون طفلَي الصغيرين، ولم أملك حينها إلا أن أقول لهم "اطمئنوا، سأعود"، ذلك بالرغم من عدم إدراكي لما سيحصل معي لاحقًا.

كنت الأسيرة الوحيدة في القسم المدني لسجن "هشارون"، وهذا يعني أنني كنت الأنثى الوحيدة بين مئات المجرمين وأصحاب السوابق، وقد تعرضت للشتائم المباشرة، والنظرات التفحّصية الدائمة، التي لا تخلو من الإيحاءات الجنسية، هذا إلى جانب تعرضي لسياسة التفتيش العاري، والعزل الانفرادي في زنزانة شديدة الرقابة، أي بعدم وجود أدنى درجات الخصوصية للجسد، ولا أنسى تعرضي للتوبيخ الشديد من قبل حراس غرفة الانتظار "الأمتناة" قبل خروجي للمحكمة في المسكوبية، بسبب حدوث عطل في حمام الغرفة، أدى لخروج الماء الممزوج بدماء الدورة الشهرية خاصتي، والسبب كان رفضهم إعطائي للفوط الصحية.

هذه معاناة "جمعيّة" نعايشها نحن المُستعمَرات الفلسطينيات، أمهات، وأسيرات، وصحافيات، وزوجات أسرى، أو حتى مواطنات عاديات، هذه معركتنا جميعًا بدون استثناء.

أختم هنا بقولٍ للأديب الفلسطيني خليل السكاكيني، "على الشعب أن يكون واعيًا أنه يمتلك أرضًا، ولسانًا، وإذا شئت أن تقتل شعبًا ما، فاقطع لسانه واحتل أرضه".

لمى غوشة

القدس المحتلة

كاريكاتـــــير