شبكة نوى، فلسطينيات
اليوم الجمعة 24 اكتوبر 2025م01:54 بتوقيت القدس

إبادة التعليم.. عامان بلا جرس ولا نشيد وطني!

22 اكتوبر 2025 - 17:06

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

على مقاعدٍ مكسّرة، في فناءٍ يغطيه الغبار، يجلس أطفالٌ يخطّون بأقلامهم القصيرة ما تبقّى من أحلامهم. المدرسة التي كانت تضجّ بأغاني الصباح تحوّلت إلى أطلالٍ يعلوها صدى القصف، والجدران التي حملت يومًا شعارات "العلم نور" امتلأت بشقوقٍ وندوبٍ تشبه ذاكرة جماعية تحاول أن تتشبّث بالحياة.
عامان مضيا على الحرب التي لم تترك في غزة شيئًا إلا مرّت عليه، وكان التعليم من أكثر ضحاياها وضوحًا ووجعًا؛ فكلّ مدرسةٍ صارت مأوى، وكل دفترٍ شاهدًا على الخسارة.

يعيش الأطفال في قطاع غزة صدماتٍ تفوق قدرتهم على الفهم. فقدوا الأمن والأمان، والمنازل التي كانت حضنهم الأول. نزحوا مراتٍ متكرّرة، مرّوا عبر حواجز يقف عليها جنودٌ يصوّبون بنادقهم المحشوة بالموت نحو الأجساد الصغيرة، شاهدوا جثثًا تأكلها الكلاب، وفقدوا أقارب وأصدقاء، فيما تحوّلت مدارسهم إلى مراكز إيواء.
في كلّ بقعةٍ صُنّفت "آمنة" مؤقتًا، انطلقت مبادرات تعليمية في محاولةٍ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن الفاقد التعليمي بات شاسعًا، والطلبة تغيّرت أولوياتهم. لم يعد التعليم في صدارة اهتماماتهم، بعدما صار البقاء على قيد الحياة هو الدرس الأصعب في زمن الإبادة المقيتة.

منذ اندلاع الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم تسلم أي منطقة من الدمار ولا مدرسة من الأذى؛ فمباني أكثر من 88%  من مدارس القطاع تهدّمت كليًا أو جزئيًا، بعضها مُحي من الخريطة تمامًا، وأخرى لم يبق منها سوى الأساسات.
وبحسب وزارة التربية والتعليم العالي، استُشهد 20,058 طالبًا وأصيب 31,139  آخرون منذ بدء العدوان الإسرائيلي في السابع من أكتوبر على غزة والضفة.

"قبل ذلك السبت الذي غيّر مسار حياتنا، كنت أستعد لاختبارٍ في الرياضيات، وكان لدي الكثير من الخطط والأحلام، لكن بعد السابع من أكتوبر تغيّر كل شيء"، تقول فاطمة الفرا (17 عامًا) بنبرةٍ تختلط فيها الطفولة بالخذلان.
تتابع: "تحوّلت مدرستي إلى ركامٍ في الشهور الأولى للحرب. واليوم، وأنا أدخل عامي الثالث بعد الإبادة، لم أعد أملك مقعدًا ولا فصلًا. لا أعرف مصير كثير من زميلاتي ومدرّساتي، فرّقتنا الحرب وتشتّتنا في كلّ مكان. كنت في الصف التاسع، واليوم أنا في الثانوية، لكني لا أفهم كيف مرّ عامان دراسيان بهذه السرعة ونحن بلا مدارس، أشتاق إلى كلّ ما يذكّرني بالمدرسة: طابور الصباح، جرس المغادرة، حصص الرياضة.. كلّها تفاصيل فقدناها إلى الأبد".

جنى السقا، التي يُفترض أن تكون في الصف الخامس، تعيش القصة ذاتها. تقول والدتها: "نزحنا من شمالي غزة إلى خانيونس، ثم إلى رفح، وعدنا مجددًا بعد اجتياحها. في كلّ نزوحٍ كنا نبدأ من الصفر، ولم نتمكن من الانتظام في أي مبادرة تعليمية بسهولة. انقطاع الكهرباء والإنترنت جعلني أعتمد على نفسي لتعليمها وتعويض ما فاتها".

ليست جنى استثناءً، فآلاف الطلبة لم يتمكنوا من متابعة دروسهم بأي شكل. تقول نداء عبد الباسط: "لم يكن من السهل أن أرى مستقبل أطفالي يضيع، لكن الخوف كان سيد الموقف طوال عامين. الموت كان في كل مكان، والقصف لا يتوقف. مؤخرًا، في المخيم الذي نزحتُ إليه، أقامت معلمة صفًّا داخل خيمتها وبدأت تجمع الأطفال. أرسلت أولادي إليها، فشعرت بالفارق الهائل في مستواهم، وأدركت كم خسرنا من علمٍ وحياة. أتمنى فقط أن يثبت وقف إطلاق النار ليبدأوا رحلة تعليم حقيقية".

أما أم عبد الله، فلم تجرؤ على إرسال أطفالها لأسبابٍ مختلفة: "الأمر لا يتعلق بالخوف فقط، بل بعجزي عن توفير القرطاسية والرزم التعليمية التي تباع بأسعارٍ فلكية. أشعر بغصّة وأنا أرى طفلتي تنظر بحسرةٍ إلى أقرانها المتجهين إلى المدرسة، بينما بالكاد نستطيع تأمين طعام يومنا. التعليم أصبح حلمًا بعيد المنال في ظل الغلاء الفاحش".

"رغم كل هذا الظلام، كنت أحمّل الدروس عبر الإنترنت وأدرس ذاتيًا، على أمل أن تنتهي الحرب. لكن حين جاءت الاختبارات إلكترونية، تلاشى الأمل، وتبخّرت أحلامنا أدراج الرياح".

طلبة الثانوية العامة، سواء دفعة 2006 أو 2007، يواجهون وجعًا مضاعفًا. تقول سجى عطا الله: "التوجيهي كان حلمنا، خططنا للاحتفال بالنجاح، لكن الحرب دفنت أحلامنا. حاولت أن أكون إيجابية رغم كل هذا الظلام، كنت أحمّل الدروس عبر الإنترنت وأدرس ذاتيًا، على أمل أن تنتهي الحرب. لكن حين جاءت الاختبارات إلكترونية، تلاشى الأمل، وتبخّرت أحلامنا أدراج الرياح".

في كلّ بيتٍ في غزة طفلٌ ينتظر أن تعود مدرسته. لكن المدارس صارت رمادًا، والمعلمون نازحون أو مفقودون، ومن بقي منهم يحاول التدريس في خيامٍ من قماش. مئات الآلاف من الطلبة انقطعوا عن التعليم لعامين متتاليين؛ بعضهم لم يتعلّم حرفًا منذ بداية الحرب، وآخرون تابعوا دروسهم عبر الإنترنت متى توافرت الكهرباء والاتصال، وهي رفاهية نادرة.

تبدّلت أدوار الأطفال في غزة. لم تعد حقائبهم أولوية، بل أوعية المياه وأواني الطهو. باتت طفولتهم محاصرةً بين البحث عن الطعام والنجاة من الموت.

في غرفةٍ من الصفيح في مواصي خانيونس، تجلس المعلمة صفاء الأسطل على كرسيٍّ متهالك تشرح درسًا في الفيزياء لطلبة الصف الحادي عشر. أمامها وجوهٌ متعبة ودفاتر مهترئة على طاولاتٍ صنعها الأهالي بأياديهم. الهواء خانق، والأرض ترابية، والطلبة يحاولون فهم ما تقول.
تقول صفاء بابتسامةٍ يائسة: "أحيانًا أضطر للعودة إلى دروس المرحلة الابتدائية. طلابي في الحادي عشر لكن قدراتهم لا تتجاوز الإعدادية. الحرب سرقت منهم كل شيء: مدارسهم، حياتهم، وحتى ذاكرتهم الدراسية".

تضيف: "بعد عامين من الحصار والنزوح، ضاع المنهج وضاعت الأساسيات. الطلبة نسوا قواعد اللغة، ومهارات الحساب، ومفردات الإنجليزية. بعضهم لا يستطيع الإمساك بالقلم بثبات. كنا نظن أن فاقد التعليم بعد كورونا هو الأسوأ، لكن فاقد الحرب فاق كل تصوّر".

وترى أن تجربة التعليم الإلكتروني لم تنجح في غزة: "كيف يتعلم الطلاب أون لاين وهم بلا كهرباء ولا أجهزة ولا إنترنت؟ لذلك كانت النقاط التعليمية - تلك الخيام الصغيرة التي تدعمها وزارة التعليم واليونيسف- البديل المؤقت، لكنها محدودة ولا تشمل الجميع".

وتشير صفاء إلى أن المدرسة التي تتطوع فيها توقفت عن استقبال مزيدٍ من الطلبة بسبب الاكتظاظ. "النقاط التعليمية عبارة عن خيام تفتقر لأدنى مقومات الصف، الطلبة يجلسون على الأرض في حرٍّ خانق، بلا مقاعد ولا أدوات تدريس كافية. المسافة بيني وبين الطلبة لا تتجاوز 30 سنتيمترًا، وهذا يعيق الحركة ويؤثر على أدائي. كثيرٌ منهم يفتقرون إلى القرطاسية، وبعضهم لا يملك حتى حذاءً. الوضع الاقتصادي يفوق الاحتمال. نحتاج خطة شاملة تعيد للتعليم مكانته: صفوف صالحة، برامج دعم نفسي، وأن يشعر الطفل أن المدرسة بيته الآمن من جديد".

الدمار لم يقف عند حدود المدارس؛ فالجامعات في غزة لفظت أنفاسها الأخيرة. الجامعة الإسلامية، الأزهر، فلسطين، الإسراء، الكلية الجامعية وغيرها تضرّرت أو توقفت بالكامل. مختبرات الأبحاث تحوّلت إلى أنقاض، وقاعات المحاضرات أُغلقت. مئات الأساتذة فقدوا منازلهم أو حياتهم، وآلاف الطلاب وجدوا أنفسهم بلا أفقٍ أكاديمي.


وفقًا لتقرير اليونسكو منتصف 2025، كل مؤسسات التعليم العالي في غزة متوقفة أو تعمل جزئيًا دون بنية تحتية. وتشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن 87  ألف طالب جامعي حُرموا من الدراسة، بعد تدمير 57  مبنى جامعيًا بالكامل واستشهاد 190 من الكوادر التدريسية.

ورغم المحاولات لمواصلة التعليم إلكترونيًا، ظل الأمر شبه مستحيل. لكن طلبة غزة لم يفقدوا العزيمة. علياء محمد، خريجة هندسة، تقول: "لم أتوقف رغم القصف والنزوح. كنت أمشي مسافات طويلة أبحث عن إنترنت أو نقطة لشحن هاتفي. حصلت على شهادتي، بل ونلت منحة ماجستير، لكنني ما زلت أنتظر فتح معبر رفح لأكمل طريقي".
على النقيض، محمد الذي كان في عامه الجامعي الأخير، اضطر لترك الدراسة بعد أسر والده: "صرت المعيل الوحيد لعائلتي. بعد أكثر من عشر نزوحات، لم تعد الشهادة ضمن أولوياتي. ما نريده فقط هو البقاء".

تشير التقارير الحقوقية إلى أن 88%  من مدارس غزة تعرضت للقصف المباشر، و61%  منها دُمّرت كليًا. تحوّلت معظمها إلى مراكز إيواء، ما عطّل المسيرة الدراسية وحرم 785 ألف طالب من التعليم، وتوقف 25  ألف معلم عن العمل للعام الثالث على التوالي.

"95%  من مدارس القطاع تضررت، و163  مدرسة وجامعة دُمّرت بالكامل، فيما تحتاج 90%  من المباني المتبقية لإعادة بناء أو تأهيل"، مشيرًا إلى استشهاد 13,500  طالب و830 معلمًا، و193  أكاديميًا.

وحذّرت اليونيسف من أن أطفال غزة قد يخسرون ما يعادل خمس سنوات تعليمية، بما يخلّف آثارًا نفسية واجتماعية كارثية على الأجيال القادمة.

يقول إسماعيل الثوابتة، مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إن هذه الأرقام "كارثية بكل المقاييس"، مؤكدًا أن حرمان الطلبة من التعليم في مراحله الأولى "جريمة متعمّدة بحق الأجيال الفلسطينية".

ويضيف: "95%  من مدارس القطاع تضررت، و163  مدرسة وجامعة دُمّرت بالكامل، فيما تحتاج 90%  من المباني المتبقية لإعادة بناء أو تأهيل"، مشيرًا إلى استشهاد 13,500  طالب و830 معلمًا، و193  أكاديميًا، وجرح أكثر من 25  ألف طالب.
يختم الثوابتة: "الاحتلال يستهدف الوعي كما يستهدف الحياة، يريد أن يفرض واقعًا من الجهل والفقر والتهجير، في إطار إبادةٍ معرفية ممنهجة".

عامان من الإبادة تركا ندوبًا لا تمحى على مستقبل طلبة غزة. المدارس التي كانت فضاءً للمعرفة باتت رمزًا للدمار، والسبورة التي حملت أحلامهم صارت شاهدة على الفقد والألم.
مأساة التعليم في غزة ليست أرقامًا على الورق، بل حكاية يومية لأطفالٍ يبحثون عن الضوء وسط الركام. ما جرى لم يكن مجرد تدميرٍ للمباني، بل محوٌ لذاكرة جيلٍ بأكمله، واغتيالٌ للحلم قبل أن يُولد. فكل رصاصةٍ لم تُصب جسدًا، أصابت دفترًا، وكل صاروخٍ لم يهدم منزلًا، هدم فصلًا دراسيًا أو سرق حلمَ طفلٍ بأن يصبح طبيبًا أو معلّمًا.
في غزة، لم يعد التعليم مجرّد حقٍ مسلوب، بل معركة بقاء يومية بين الركام والنجاة، بين صوت القصف وقراءة الحروف الأولى.

كاريكاتـــــير