شبكة نوى، فلسطينيات
اليوم الجمعة 24 اكتوبر 2025م01:58 بتوقيت القدس

صحافيو غزة.. عامان و"الكلمة" تنزف!

21 اكتوبر 2025 - 13:39

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

في صباحاتٍ ما قبل الحرب، كانت الصحافية مادلين شقليه تبدأ يومها خلف ميكروفون الإذاعة، تبث عبر أثير "راديو زمن" تحية الصباح المعتادة: "صباح الخير". كانت الحياة مستقرة، والعمل الإذاعي يسير برتابةٍ محببة كما اعتادت، إلى أن تبدّل كل شيء فجأة.

اندلعت الحرب، ولم يعد هناك صباحٌ بخير، ولا راديوهات تعمل في غزة. بين ليلةٍ وضحاها، تحوّل مكتبها الدافئ إلى خيمةٍ بين أزقةٍ مدمّرة، وصارت تستقل عرباتٍ تجرها الدواب بدل السيارات، تحمل ما تيسّر من معداتٍ بسيطة لتروي قصص الحرب من قلب الركام. وجدت نفسها تمارس مهنةً جديدة لم تخترها: مصوّرة وموثقة ميدانية في منطقةٍ منكوبة، بعدما كانت معدّة ومنتجة ومذيعة برنامجٍ صباحيٍّ هادئ تطلّ به بصوتها على مليوني إنسان في غزة.

"شعرت بالانهيار مراتٍ كثيرة، قُهرت وبكيت لأيام، أمشي في عملي وأحدّث نفسي: هذا لا يستوعبه عقل! كيف يحدث لنا هذا وعلى مرأى العالم؟".

تتحدث مادلين عن أن صدمتها الأولى بالحرب كانت الأقسى، حين فقدت أختها التي استشهدت ودفنت دون أن تعرف العائلة شيئًا لأيامٍ بسبب انقطاع الاتصالات. "دفنت دون وداع، دون جنازة، دون قبرٍ نعرف له عنوانًا"، تضيف بصوتٍ يختلط فيه القهر بالحسرة.
وتتابع: "بعد صدمتي الأولى مررت بالكثير من الصدمات، شعرت بالانهيار مراتٍ كثيرة، قُهرت وبكيت لأيام، أمشي في عملي وأحدّث نفسي: هذا لا يستوعبه عقل! كيف يحدث لنا هذا وعلى مرأى العالم؟".

"أشعر أنني فقدت شيئًا (..) فقدت نفسي القديمة. لا أعرف ماذا سيحدث غدًا. لا أدري كيف تحولت من مذيعةٍ هادئة تقول صباح الخير، إلى شاهدةٍ على إبادةٍ ترويها".

عامان من العمل الصحفي تحت الإبادة عاشتهما مادلين، تصفهما بأنهما فصول من العذاب الإنساني اليومي. حرارةٌ خانقة، بردٌ قارس، جوعٌ ينهش الأجساد، وقصفٌ لا يتوقف. مشاهد قادرة على كسر الصخر، لكنها استمرّت، شاهدةً على دماء أطفال غزة ونسائها ورجالها، ناقلةً أصواتهم في زمنٍ مُنع فيه صحافيو العالم من الدخول جراء الحصار الإسرائيلي المشدد.
"أشعر أنني فقدت شيئًا"، تقول بصوتٍ خافت، "فقدت نفسي القديمة. حتى لو انتهت الحرب، لا أعرف ماذا سيحدث غدًا. لا أدري حتى اليوم كيف تحولت من مذيعةٍ هادئة تقول صباح الخير، إلى شاهدةٍ على إبادةٍ ترويها".

لم تكن الحرب في غزة فصلًا دمويًا فحسب، بل اختبارًا قاسيًا لجوهر المهنة الصحفية. بين الركام والنزوح والفقد، كتب الصحافيون الفلسطينيون روايتهم الأخيرة عن البقاء، فيما كان العالم يشاهد من بعيد.

بحسب توثيق مؤسسة "فلسطينيات"، فقد الإعلام الفلسطيني أكثر من 280 صحافيًا وصحافية منذ السابع من أكتوبر 2023م، بينهم 52 صحفية، فيما تحوّلت نحو 150 مؤسسة إعلامية إلى ركام. وقدّرت الخسائر المالية للقطاع الإعلامي بنحو 8 مليارات دولار، وفق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة. وتشير أبحاث "فلسطينيات" إلى أن النساء يشكّلن ثلث العاملين في هذا القطاع، إذ يبلغ عدد عضوات نادي الإعلاميات الفلسطينيات في غزة قرابة 600 عضوة، أي ما يقارب 1800 إعلامي وإعلامية على الأقل في المجموع العام.

وفي دراسة حديثة للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان (فبراير 2025)، كشف أن 92% من الصحافيات الفلسطينيات يعانين أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) نتيجة التغطية الميدانية، فيما حذّرت منظمة الصحة العالمية من تدهور حاد في الصحة النفسية والجسدية للعاملين في الإعلام بغزة؛ بسبب تدمير البنية الصحية وانعدام الدعم النفسي.

ورغم هذا الجحيم، ظلّ كثيرون منهم في الميدان يوثّقون ما تبقّى من الحياة تحت القصف. وهنا تبرز قصة الصحفي عبد الله مقداد، مراسل التلفزيون العربي.

يخبرنا عبد الله أنه في اليوم الأول للحرب كان يؤدي مهامه الصحفية داخل المكتب كالمعتاد، إلى أن تصاعد القصف، فاضطر مع زملائه للانتقال إلى مستشفى الشفاء لأيام. "في الحقيقة لم يكن انتقالًا بل نزوحًا قسريًا"، يقول، ويتابع: "محطات النزوح الصحافي كانت مريرة وقاسية، أُجبرنا على ترك مكاتبنا، ثم خيمة الشفاء، فخيمة مستشفى ناصر، ثم شهداء الأقصى، وأخيرًا المستشفى الكويتي في رفح، مع اقتراب التوغلات البرية والأحزمة النارية التي هددت حياتنا مباشرة".

"كان الميدان بيتي المؤقت، والسيارة سريري. رفضت المغادرة وتشبثت بالبقاء منذ اللحظة الأولى، ففي غزة تحت الإبادة شعرتُ أن لا حق لي بالانسحاب، بقدر حقي في استكمال مسيرتي".

يستذكر عبد الله لياليه الطويلة في السيارة التي تحوّلت إلى مسكنٍ مؤقت، يتناول ما تيسّر من الطعام الممزوج بتراب الخيام، يفكر بعائلته البعيدة، يعجز عن الاطمئنان عليهم بينما الانفجارات تملأ السماء، والقصف لا يتوقف، والأخبار تتدفق كالسيل فلا تمنحه فرصةً للهدوء.

ولعلّ أكثر ما يثير الألم أن صحافيي وصحافيات غزة كانوا وحدهم من غطّوا الحرب فعلًا، إذ منعت دولة الاحتلال منذ اليوم الأول دخول الصحافيين الأجانب، وفرضت حصارًا مشددًا على الأفراد والمعدات وأدوات السلامة المهنية وأجهزة البث. ورغم ذلك، في كل مرة شيّعوا فيها زميلًا أو زميلة، كانوا يردّدون: "التغطية مستمرة".

يقول عبد الله: "كان الميدان بيتي المؤقت، والسيارة سريري، والوجع والألم رفيقاي الدائمين. رفضت المغادرة وتشبثت بالبقاء منذ اللحظة الأولى، ففي غزة تحت الإبادة شعرتُ أن لا حق لي بالانسحاب، بقدر حقي في استكمال مسيرتي وإعلاء أصوات الضحايا رغم كل محاولات إسكاتنا".

في كانون الثاني/يناير 2024م، أصدر المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحرية الرأي والتعبير بيانًا شديد اللهجة أدان فيه الارتفاع غير المسبوق في أعداد الصحافيين الذين قُتلوا في غزة، عادًا أن استهداف الإعلاميين "قد يرقى إلى جرائم حرب" وفق القانون الدولي الإنساني.

جاء البيان في سياق تصاعد الغضب الدولي إزاء الانتهاكات بحق الإعلام الفلسطيني، التي تجاوزت الاستهداف الفردي إلى نمطٍ منظّمٍ يرمي إلى إسكات التغطية وكبح تدفّق المعلومات من القطاع.

وفي السياق ذاته، طالبت منظمة العفو الدولية بإجراء تحقيقٍ دوليٍّ مستقل في مقتل عشرات الصحافيين الفلسطينيين، مؤكدة أن "النمط المتكرر والمتعمد للقتل" يكشف عن سياسة ممنهجة لتقويض العمل الإعلامي الحر.

هذا التوصيف انسجم مع خطوة الاتحاد الدولي للصحافيين (IFJ) الذي رفع في كانون الأول/ديسمبر 2023م ملفًا رسميًا إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، متهمًا سلطات الاحتلال بارتكاب جرائم ضد الصحافيين الفلسطينيين، ومطالبًا بمحاسبة المسؤولين عنها أمام العدالة الدولية.

وفق اتفاقيات جنيف لعام 1949م والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977م، تنص المادة (79) على أن "الصحافيين الذين يقومون بمهمات مهنية خطيرة في مناطق النزاع يُعتبرون مدنيين ويجب أن يتمتعوا بالحماية الكاملة".

وقد عززت هذه المواقف الاعتراف الدولي بحق الصحافيين في الحماية أثناء النزاعات، وفق اتفاقيات جنيف لعام 1949م والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977م، الذي نصّت مادته (79) على أن "الصحافيين الذين يقومون بمهمات مهنية خطيرة في مناطق النزاع يُعتبرون مدنيين ويجب أن يتمتعوا بالحماية الكاملة".

ويتقاطع هذا مع المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تؤكد "حق كل إنسان في حرية الرأي والتعبير"، بما في ذلك حرية استقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها دون قيود. كما تمتد الحماية إلى البعد الجندري في العمل الإعلامي، إذ أكدت اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) على ضرورة ضمان مشاركة النساء في الحياة العامة، بما في ذلك الإعلام.

أما الصحافي أحمد جلال، فكان له صراع آخر بين المهنة والأبوة. كان يغنّي لأطفاله كلما استطاع اللقاء بهم، فأصغرهم لم يتجاوز الشهرين عند اندلاع الحرب، وكانت تلك طريقته للتشبّث بالحياة. يتحدث أحمد عن أنه لم يتخيل أن يعيش حربًا تستمر لعامين، "فمنذ اليوم الأول كان في الميدان ينقل الحقيقة وسط القصف والدمار، لكنه كان ممزقًا بين واجبه المهني ومسؤوليته كأب لثلاثة أطفال. لا أحد يفهم هذا الصراع سوى الفلسطينيين"، يهمس.

"تحوّلت تفاصيل الحياة اليومية إلى معركة: دخول الحمام، الحصول على الماء والغذاء، حتى النوم في مكان آمن حلم بعيد".

اضطر أحمد للنزوح مع عائلته إلى دير البلح، يعيش نهاره في التغطية وليله في محاولة طمأنة أطفاله. تحوّلت تفاصيل حياته اليومية إلى معارك صغيرة: دخول الحمام مأساة، الحصول على الماء والغذاء صراع، والنوم في مكان آمن حلم بعيد. لم يعد العمل في مكاتبٍ مزوّدة بالكهرباء والإنترنت، بل في خيام بلا مواصلات ولا تغطية.

وكانت "إسرائيل" قد قطعت الاتصالات في فتراتٍ امتدت لأسبوعٍ كامل في بعض المرات خلال الإبادة، فصار الاطمئنان على الأهل أو الزملاء مجرّد صدفة، فيما عانى الصحافيون العاملون في المجال الرقمي من صعوباتٍ هائلة في إرسال موادهم.

من خيمة مادلين، إلى سيارة عبد الله، إلى أغنية أحمد لأطفاله، واصل الصحافيون الفلسطينيون أداء واجبهم المهني والإنساني في واحدة من أكثر البيئات قسوة في التاريخ الحديث. لم تكن الكاميرا وسيلةً لنقل الخبر فحسب، بل درعًا ضد النسيان، وشاهدًا على أن الكلمة بقيت حيّة، حتى تحت الإبادة.

كاريكاتـــــير