شبكة نوى، فلسطينيات
اليوم الاربعاء 22 اكتوبر 2025م00:09 بتوقيت القدس

حيوانات الحاج فتحي.. رفقاء مغامرة "النجاة" تحت النار بغزة!

20 اكتوبر 2025 - 14:32

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

في قطاعٍ أنهكته المآسي وتكسّرت على أرضه الأحلام، لم ينجُ أحد من الألم، فالحرب لم تفرّق بين إنسانٍ وحيوان، الكلّ يصارع للبقاء وسط الركام والغبار، في صمتٍ تحمله رائحة الدخان، وفي عيونٍ تبحث عن حياةٍ لم تعد كما كانت.

غزة التي تئنّ منذ شهور طويلة، تخفي تحت رمادها قصصًا صغيرة عن وفاءٍ وصبرٍ لا يُشبهان أي قصص قد تسمعها في أي مكانٍ في هذا العالم، تمامًا كقصة الحاج فتحي جمعة، الرجل الذي آثر أن ينجو مع حيواناته على أن ينجو وحده.

على مساحة أربعة دونمات، شيّد أول حديقة حيوان في القطاع، ضمّت الأسود، والكنغر، والنعام الأمريكي والبلجيكي، والثعالب، والذئاب، والطيور، والأفاعي، وكائناتٍ أخرى أحبّها كما يحب أبناءه.

منذ طفولته في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، كان فتحي يجد في الحيوانات أصدقاء الروح، لا مجرد كائناتٍ يهوى تربيتها. كان يلاعبها، يطعمها، ويحادثها كأنها تفهمه، وحين شبّ وكبر، ظلّ الحلم يرافقه: أن يؤسس حديقةً للحيوان في غزة. وفي عام 1999، تحقّق الحلم أخيرًا.

على مساحة أربعة دونمات، شيّد أول حديقة حيوان في القطاع، ضمّت الأسود، والكنغر، والنعام الأمريكي والبلجيكي، والثعالب، والذئاب، والطيور، والأفاعي، وكائناتٍ أخرى أحبّها كما يحب أبناءه.

لكنّ الاحتلال لم يترك الحلم يعيش طويلًا. ففي عام 2004م، اجتاح رفح، وجرّف الحديقة بأكملها، لم يبقَ من حيواناتها سوى الذكريات. كانت تلك الخسارة فادحة، غير أن فتحي لم يستسلم. "الحديقة كانت جزءًا لا يتجزأ من حياتي، لذلك أعدت إنشائها بمجهودي الخاص، دون أي دعم أو تعويض"، يقول لـ"نوى"، بصوتٍ يفيضُ بالعزم.

لم تكن حرب الإبادة سوى فصلًا جديدًا من المأساة ذاتها. فخلال الاجتياحات المتكرّرة، لم يفرّق الاحتلال بين قفصٍ يحتضن حياةً صامتة وبيتٍ يسكنه بشر. في رفح، حيث تقبع حديقته الجديدة، جاءت أوامر الإخلاء، وكأن ذاكرة التجريف القديم أُعيدت من جديد.

يقول الحاج فتحي: "آخر ما توقّعته هو اجتياح رفح، ظننتها المدينة الآمنة كما وصفها الاحتلال". ومع تتابع الأخبار، ارتجف قلبه، فالمشهد ذاته يعود ليخطف منه كل ما بنى. لكنه رفض التخلي عن حيواناته.

تحت أصوات الطائرات ودويّ القصف، بدأ رحلته الأصعب. "نقلنا الحيوانات ونحن تحت القصف وإطلاق النار، لم يكن أحد في محيط الحديقة لأنها كانت منطقة قتال"، قالها بحسرة.

اضطر إلى ترك نصفها هناك: النعام، الذئاب، الثعالب، وحتى الأسود. "كان لدي ثلاث أسود، اللبؤة كانت على وشك الولادة، لم آخذ سوى الأشبال"، يضيف بصوتٍ متهدّج.

تركهم خلفه، لكنّ قلبه ظلّ هناك، معلّقًا بين الأقفاص المهدّمة وصوت الزئير الذي انطفأ داخلها.

حين أعلن عن الهدنة في يناير 2025م، سارع إلى العودة. كان الأمل يسابق خطواته، لكن المشهد كان قاسيًا. لم يجد سوى هياكل عظمية لحيواناته التي عايشها لسنوات، وركامًا غطّى ما تبقّى من الحديقة.

حين أعلن عن الهدنة في يناير 2025م، سارع إلى العودة. كان الأمل يسابق خطواته، لكن المشهد كان قاسيًا. لم يجد سوى هياكل عظمية لحيواناته التي عايشها لسنوات، وركامًا غطّى ما تبقّى من الحديقة. تلك اللحظة اختزلت كلّ الحروب في قلبه، كما قال: "لم أجد سوى الموت ينتظرني هناك، موت الحلم، وموت الرفاق".

نزح الحاج فتحي مرةً أخرى، من رفح إلى خانيونس، ثم إلى دير البلح، وسط قطاع غزة، حاملًا ما استطاع من الحيوانات. خيمته لم تكن مأوىً له وحده، بل ملجأ لعشرات الكائنات التي رافقته في رحلة البقاء. ومع اشتداد الحصار ونفاد الطعام، صار يقتسم معها ما يملك.

"كنت أطبخ العدس والأرز لها، وأكسر الخبز اليابس للقرود، وأبحث عن لحم أي حيوان، حتى لو كان ميتًا، لأشبال الأسود"، يروي بحزن. "اقتسمت الطعام معها، ولم أستطع إعطاءها سوى ما يبقيها على قيد الحياة، بعضهم مرض من الجوع، أحد الكلاب لم يأكل لـ18 يومًا، فركّبت له محلولًا بيدي".

في زمنٍ جاع فيه الجميع، ومرض فيه الإنسان والحيوان معًا، لم يعد الفرق واضحًا بين مأساة وأخرى. البشر في غزة يفتقدون الأمان، والحيوانات تذبل في أقفاصها، تصرخ بلا صوت، وتنتظر نجاةً قد لا تأتي. وفي ظلّ هذا الخراب، لم يجد الحاج فتحي مطلبًا سوى واحد: أن تُنقذ مؤسساته الدولية المعنية بالحيوانات تلك الكائنات التي تصارع معه البقاء.

اليوم، تعيش الحيوانات في مساحة لا تتجاوز 300 مترٍ، بلا طعام ولا دواء، تحيط بها رائحة الجوع والموت البطيء، بينما يواصل الحاج فتحي سعيه بصمتٍ ووفاء، كمن يحرس آخر ما تبقّى من الحياة في أرضٍ أنهكتها الحرب.

كاريكاتـــــير