غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
لم تمنحها آلة القتل الإسرائيلية لحظة واحدة من حلمٍ كانت تعدّ له الأيام والثواني. تمنّت أن تعيش إعلان وقف إطلاق النار، أن تصمد حتى نهاية الحرب لتحتضن عائلتها وتلتقط لها معهم صورة "خَلاص"، لكن الصاروخ باغتها قبل الوصول، واغتال كل ما تمنّته في لحظة واحدة.
استشهدت الصحافية ولاء محمد الجعبري، برفقة زوجها وطفليهما، إثر قصف عنيف طال المنزل الذي لجأت إليه.
في تمام الواحدة والنصف صباحًا، وقع القصف، وفق شقيقها سماح. "كان التاريخ: الثالث والعشرين من يوليو/ تموز 2025م، وكانت ولاء في شهرها الخامس من الحمل" تقول.
استهدفت طائرات الاحتلال المنزل الذي كانت تنزح فيه ولاء مع أسرتها. كانت في شهرها الخامس من الحمل، واستشهدت برفقة زوجها وطفليها: أمير ومالك، بينما نجا طفلها الثالث كريم، بعد إصابته بجروح خطيرة.
ولاء كانت تعيش على أمل لقاء قريب. كانت تنتظر التهدئة بفارغ الصبر ليلتئم شملها بعائلتها من جديد. لتستعيد لحظات كانت تحفظها عن ظهر قلب. تقول شقيقتها: "كانت دائمًا تردد لنا: عندما تتوقف الحرب، سأزوركم وأمكث عندكم، سأعود إلى بيتي، إلى حضن أمي وضحكات إخوتي".
مسيرة ولاء الدراسية كانت مكلّلة بالإصرار والنجاح. بعد إنهاء الثانوية العامة بمعدل جيد، اختارت دراسة الصحافة، شغفها منذ الطفولة، وكانت تمضي الساعات تتابع القنوات الإخبارية وتكتب.
لكن الفقد سبق الهدنة. وجاء خبر استشهادها كالصاعقة، حرم العائلة من بهجة اللقاء المنتظر. تصف سماح لحظة معرفة الخبر بالقول: "كنا ننتظر الهدنة لنلتقي في بيت العائلة، لنضحك كما اعتدنا حتى الفجر، لكن الخبر سلب منا كل شيء".
مسيرة ولاء الدراسية كانت مكلّلة بالإصرار والنجاح. بعد إنهاء الثانوية العامة بمعدل جيد، اختارت دراسة الصحافة والإعلام في الجامعة الإسلامية، شغفها منذ الطفولة، وكانت تمضي الساعات تتابع القنوات الإخبارية وتكتب وتراقب العالم من حولها.
تابعت دراستها، وتخرجت بتقدير جيد جدًا. تعاونت مع عدة وكالات إذاعية محلية، كما عملت في الإعلام الحر، إلى أن التحقت بوظيفة منسقة إعلامية في وزارة العمل.
"ولاء كانت تجاهد لتواصل عملها، لم تتوقف عن المحاولة"، بهذه الكلمات تستذكر صديقتها الصحافية آلاء النمر تفاصيل حياتها. عرفت ولاء منذ الطفولة، وشهدت كفاحها في زمن قاسٍ. حين نزحت إلى الجنوب بصحبة أطفالها دون زوجها، كانت وحدها في مواجهة العجز والغلاء. تروي آلاء: "كانت تخرج يوميًا لأكثر من أربع ساعات بحثًا عن عمل لتطعم أطفالها".
لم تكن تملك حتى جهاز حاسوب يساعدها في كتابة تقاريرها الصحافية. سعت كثيرًا للحصول عليه، لكن كل المحاولات باءت بالفشل.
من بين أقسى اللحظات التي مرت بها ولاء خلال الحرب، كانت محاصرتها في مستشفى الشفاء. هناك، وضعت طفلها أمير وسط انعدام كامل للطعام والشراب والحليب، حتى أصبح وزنها الذي كان 80 كيلوغرامًا، 45 فقط. كان هاجسها الأكبر أن يقتحم الجنود الغرفة التي كانت تختبئ بها، وقد تحقق ذلك. اقتحموا غرفتها، صادروا هاتفها وأغراضها الشخصية، وأجبروها على النزوح نحو الجنوب.
تُدير آلاء وجهها وتحاول حبس دموعها بينما تسترجع آخر محادثة بينهما: "قبل يومين فقط من استشهادها، أرسلت لي صورًا لنا معًا عبر تطبيق واتساب، وبدأنا نسترجع ذكرياتنا في العمل". تتوقف قليلًا ثم تضيف بصوت متهدج: "حتى الآن، لا أصدق أنها استشهدت".
"في زياراتنا الميدانية للمديريات، كنا نستيقظ فجراً، ولا نعود إلا في المساء. ورغم ذلك، كانت ولاء تظل في الليل لتتابع نشر الأخبار على الموقع".
كانت ولاء شعلة من النشاط والاجتهاد، كما وصفتها منال الحتة، مديرة الإعلام في وزارة العمل. تقول: "عملت مع ولاء لعامين، وكانت علاقتنا أخوية قبل أن تكون مهنية. كانت تدير موقع الوزارة، تنشر الأخبار المكتوبة والمرئية والمسموعة، وتقود المهرجانات بصوتها المميز.
تميز ولاء لم يكن عابرًا. تتابع الحتة: "كانت تعمل بلا كلل، لا تعرف حدودًا لساعات العمل. وفي كل خبر جديد، كانت في الصف الأول". وتستحضر موقفًا لم يفارق ذاكرتها: "في زياراتنا الميدانية للمديريات، كنا نستيقظ فجراً، ولا نعود إلا في المساء. ورغم ذلك، كانت ولاء تظل في الليل لتتابع نشر الأخبار على الموقع".
لكن أكثر ما كان يؤلم الحتة هو تلك الأمنية التي لم تتحقق: "كانت تحلم بانتهاء الحرب لتعود لعملها. كانت تقول لي: سأعود فورًا، لا أريد أن أتأخر. لكنها رحلت قبل أن تصل".
ولاء لم تكن مجرد صحافية، بل كانت إنسانة تحمل في قلبها حبًا كبيرًا للحياة، وأملًا أكبر بالسلام، وتفانيًا لا حدود له في أداء رسالتها.
ولاء لم تكن مجرد صحافية، بل كانت إنسانة تحمل في قلبها حبًا كبيرًا للحياة، وأملًا أكبر بالسلام، وتفانيًا لا حدود له في أداء رسالتها. رحلت مع زوجها وطفليها وجنين عمره خمسة أشهر، فيما بقي طفلها الثالث جريحًا، يعاني ويلات الفقد وحده على سرير الشفاء.
رحلت ولاء، لكنها تركت أثرًا لا يُمحى، وذكرى تشتعل وجعًا في قلوب من عرفوها. رحلت، لكن صوتها، صورها، اجتهادها، كلها ستبقى شاهدة على قصة امرأة لم تُمنح حتى حق النجاة. في غزة، لا تُقتل الأحلام فقط، بل تُدفن مع أصحابها تحت الركام.