غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
لم تكن الألوان مجرّد تدرجات في لوحات أسيل نسمان، بل امتدادًا لنبضها، لحسّها، لأنوثة تروي حكايات الحياة بهدوءٍ ودهشة كانت تحدد ملامح المرأة.. وجهها، تفاصيلها، الضوء في عينيها، والجسد حين يتكلم بلا صوت.
كان الرسم بالنسبة لها احتفاءً بالجمال، وطقسًا من طقوس الإلهام والإبداع، ثم اندلعت الحرب. كل شيء تغيّر.
انهار البيت، ورُدمت تحت الركام لوحاتها، ضاعت تفاصيل الحياة بين الأنقاض، واختنقت الألوان. تقول لـ"نوى": "كل لوحاتي قبل الحرب دُفنت.. كنت أرسم الحياة، واليوم أرسم من تبقّى منها".
في خيمة صغيرة من قماش وخشب، كانت الريشة تبحث عن أدوات، عن ألوانٍ تُقاوم الاندثار، ومن قلب هذا العجز، عادت أسيل لترسم. لكنها لم تعد ترسم المرأة ولا الحياة والفرح، بل بدأت توثّق الغياب والفقد والرحيل.. بدأت ترسم الشهداء.
"برسمهم.. عشان يضلّوا معنا، عشان نضل نحس فيهم، حتى لو بمجرد رسمة"، تقولها وكأنها تُقاتل الصمت، والفقد بصورة، والموت بصحو الذاكرة.
ابن عمها، الشهيد علي نسمان، كان أكثر من ملامحٍ على ورق. كان وجهًا من وجوه غزة، ممثلًا أحبه الناس، وصوتًا للفرح، حوّلته أسيل إلى لوحة تنبض بالحضور رغم الغياب. ملامحه تطلّ من بين خطوط الفحم، كأنها ترفض أن تُنسى.
هي لم ترسمه فقط، رسمت الفتى الذي يطهو نبته "القريص" لأخيه الأصغر، ليعله يُخمد بها جوعه. رسمت الطفلة التي تذبل في صمت، دون أن تجد ما تأكله سوى الجوع نفسه، رسمت وجوهًا وأجسادًا وأسماءً، كلّها تنطق بما لا يُقال.
منذ بدأت الحرب، كانت تبحث عن أدوات للرسم كما يبحث الجريح عن ضماد يخفف من آلامه. وتخبرنا: "كنت أبحث عن أي شيء أرسم به (..) كنت بدي أوثق، ما بدي الحرب تمرّ وتسرق كل شي منا".
لوحات أسيل اليوم ليست فنًا للعرض، بل وثائق من دمٍ ووجع. في كل خطٍ ترسمه تسكب وجعها كي لا ينسى العالم. "أوقفوا الحرب، المجاعة، الإبادة.. إحنا بشر، ومن حقنا نعيش"، تصرخ بها أمام العالم في لوحاتها، في كلماتها، في حزن عينيها.
أسيل لا ترسم الموت، لكنها ترفض أن يمرّ مرور العابرين. تحوّل كل شهيد إلى صورة لا تزول، كل وجع إلى ذاكرة لا تُمحى. وكأنها تقول للعالم: "نحن ما زلنا هنا، نحمل ريشة بدل البندقية، وألمًا لا يسعفه الصراخ، لكنه باقٍ.. على الورق، وفي القلب".
























